كان على بريطانيا وحليفتها فرنسا القدوم إلى المنطقة بعد
بدء خروج الامبرطورية العثمانية منها عام 1916، وذلك لارساء نفوذهما هناك من جهة،
ولاجراء الأعمال التمهيدية اللازمة لقيام الدولة الصهيونية من جهة ثانية. فقد كانت
فلسطين في ذلك الوقت دولة غير قائمة بحد ذاتها، بل هي الجزء الجنوبي الغربي مما
كان يسمى بلاد الشام أو سورية الكبرى. ولهذا وضعت القوتين الاستعماريتين معاهدة
(سايكس-بيكو) في نفس الفترة لتقسيمها إلى أربعة أجزاء: سورية ولبنان والأردن
وفلسطين، حيث استولت فرنسا على الجزئين الشماليين وشريكتها على الجنوبيين. أما مصر
الواقعة إلى الجنوب الغربي من فلسطين، فقد كانت منذ معركة (التل الكبير) عام 1882 تحت
احتلال بريطانيا وهي التي كانت ترسم سياسة الخيديوي ثم الملك، الحاكم الشكلي
للبلاد. وقد كان الهدف البعيد لهاتين القوتين الاستعماريتين حينها أن لاتقوم في الدول
العربية، وخاصة المجاورة للدولة اليهودية المستقبلية، أي نظام ديمقراطي أو إسلامي
مستقلين عن هيمنة الغرب. إذ أن النظام الديمقراطي لايمكنه المهادنة على مصلحة
البلاد ولاعلى احتلال دولة شقيقة مجاورة ولو أراد وإلا سيسقط عبر صناديق الاقتراع،
أما النظام الإسلامي الحق فسيعلن فوراً الجهاد ضد الاحتلال لنصرة اخوته في الدين.
فتعالوا نرى كيف قام الغرب بتفصيل تلك الدول المجاورة وإبقائها محكومة من قبل
أفراد حلفاء يتمتعون بسلطة مطلقة لتناسب مقاس (إسرائيل) وحاجاتها الأمنية.
الأردن:
لم يشكل هذا البلد منذ نشأته وحتى الآن أي هاجس لا لاسرائيل ولا لحلفائها. والسبب
أن بريطانيا كانت قد أسست لنظام ملكي هناك عام 1921 ونصبت الأسرة الهاشمية على
العرش وضمنت ولائها، فلم يحصل أي خلاف بين الطرفين منذ ذلك الوقت. ومن جهتها، فقد
ضمنت بريطانيا دائماً أمن وأمان المملكة طالما عرفت العائلة المالكة حدودها وفهمت
أن أمن وأمان (إسرائيل) هو أيضاً أولوية بريطانية خصوصاً ودولية عموماً وبالتالي خط
أحمر لايمكن تجاوزه. وقد تم احترام ذلك الخط الأحمر خلال حرب فلسطين عام 1948، حيث
سمح للجيش الأردني، المشرف عليه بريطانياً، بالتقدم فقط إلى الضفة الغربية، وهي
المنطقة المخصصة لتوطين الفلسطينيين حسب تقسيم الأمم المتحدة، في حين لم يسمح له
بالتقدم إلى المناطق المخصصة للدولة اليهودية. وقد استوعب كافة الملوك الذين
تعاقبوا على العرش ذلك واحترموه ماعدا ثانيهم، الملك ( طلال)، الذي ظن أن بامكانه
أن يمارس سياسة وطنية وإن كانت لاترضي الغرب، فانتهى به ذلك في مشفى الأمراض
العقلية في المنفى وتتويج ابنه (حسين) بدلاً منه بعد عام واحد (1952). وما أن
تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية بعد حرب حزيران (1967) وبدأت بمهاجمة (إسرائيل) من
الأراضي الأردنية، سارع الملك (حسين) إلى إخراجها من المملكة بالقوة العسكرية فيما
عرف بايلول الأسود عام 1970. وبالاضافة لعامل النظام الملكي الفردي الحليف للغرب،
فقد تأثر البلد أيضاً بشح طاقاته البشرية وأيضاً إمكانياته الاقتصادية، وذلك من
حيث طبيعته الصحراوية الغير صالحة للزراعة من جهة وبفقره بالثروات الطبيعية وخاصة
المائية من جهة ثانية. كل ذلك جعل من الأردن جاراً (مثالياً) لدولة (إسرائيل)، ليس
فقط لعجزه تشكيل أي تهديد مهما كان ضئيلاً لدولة عدوانية مثلها، ولكن أيضاً لاستعداده
أن يقدم يد المساعدة لها حين الحاجة، وإن بصورة غير مباشرة. وقد توج ذلك بتوقيع
معاهدة (وادي عربة) للسلام معها عام 1994 والتي طبعت العلاقات رسمياً بين البلدين،
مانحة (إسرائيل) حصة أكبر بكثير مما تستحق من مياه نهر الأردن وتاركة البلد يبحث
عمن يبيعه المياه.
لبنان:
حين سحبت فرنسا جيوشها من لبنان عام 1946، كانت تعلم أنها تركت ورائها بلداً يدين
لها بالولاء مئة بالمئة. إلا أنها تركته بلداً تنخر فيه المناحرات الطائفية
(مسيحية-درزية-سنية-شيعية)، ومحدود الامكانيات الاقتصادية التي تكاد تكون مقتصرة
على قطاع السياحة. صحيح أنه كان يتمتع بقدر من الحرية والديمقراطية أكبر من بقية
أقرانه من الدول العربية، إلا أن تشكيلته الطائفية كانت تمثل في الحقيقة قنبلة
موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت. وقد حان هذا الوقت بعد أن انتقلت منظمة التحرير
الفلسطينية إليه من الأردن عام (1970) ثم بدأت بتنفيذ هجمات ضد (إسرائيل) انطلاقاً
من أراضيه. فعملت الأخيرة على إشعال الحرب الأهلية فيه عام 1975 والتي انتهت
باخراج المقاومة الفلسطينية مرة ثانية، ولكن هذه المرة بعيداً إلى تونس. وقد نتج
عن تلك الحرب وضع البلد تحت الوصاية العسكرية السورية (1975-2005) وكذلك غزوه من
قبل (إسرائيل) ثم احتفاظها بجنوبه (1982-2000). كل ذلك جعل من لبنان أيضاً جاراً
مثالياً لها ولاحول له ولاقوة أمامها.
مصر:
كما قلت سابقاً، فقد كانت مصر الملكية، كالأردن، تحت الاحتلال البريطاني حين أعلن
عن قيام دولة (إسرائيل) عام 1948، وبالتالي فقد شارك الجيش المصري، كقرينه
الأردني، في حرب فلسطين باشراف بريطاني، ويمكنكم أن تتخيلوا ماستكون عليه نتيجة
تلك الحرب التي يشرف عليها من وضع (وعد بلفور) وزرع الدولة العبرية في فلسطين؟ وكلنا
سمعنا عن الأسلحة الفاسدة التي زود بها الجيشين المصري والأردني خلال تلك الحرب،
بالاضافة للخيانة التي ارتكبتها القيادة الموحدة للجيوش العربية حينها بقبولها
الهدنة بالرغم من أنها كانت على أبواب (تل أبيب). تفاجأ الغرب وإسرائيل باستيلاء
الجيش المصري على الحكم عام 1952 وإرسال الملك (فاروق) إلى المنفى، ثم بظهور (عبد
الناصر) وقيامه باجلاء آخر الجنود البريطانيين عن مصر وتأميم قناة السويس وتحقيق
الوحدة مع سورية. قلقت إسرائيل في البداية من جارها المصري، وكذلك قلقت بريطانيا
وفرنسا على مصالحهما ومستقبل ربيبتهما العبرية. ولكن لم تلبث هذه الدول أن هدأت
أعصابها حين تبين لها أن (عبد الناصر) قرر أن يستفرد بحكم البلد كديكتاتور، فعادة
لايشكل الديكتاتور تهديداً لأعدائه، وإنما لشعبه فحسب. وقد صحت تلك النظرية حين
قام الرجل باتباع سياسة غير مسؤولة في مصر أدت إلى معاناة الشعب من تسلط الأجهزة
الأمنية ومراكز القوى، وسياسة مشابهة في سورية أدت إلى تذمر السوريين وفضهم لدولة
الوحدة بعد ثلاث سنوات عام (1961). كما أنه لم يقدر نوايا (إسرائيل) العدوانية فبوغت
بحرب حزيران عام (1967) حين كان قسماً كبيراً من جيشه في اليمن، ولحق به وبجيشه
هزيمة قاسية بخسارته صحراء سيناء. لاشك أن (عبد الناصر) كان رجلاً وطنياً وكانت
مصلحة بلاده والعرب هي مايشغله، ولكن هذا لايكفي للحكم، إذ أن تفرد أي ديكتاتور
بقراراته هو عامل فشله وفشل الحاكم ينعكس مصائب على البلد. الديكتاتور الوحيد الذي
يتمكن من الاستمرار في الحكم لعقود هو ذلك المدعوم غربياً لينفذ أوامرهم، وما
(حافظ الأسد) وابنه، و(علي صالح) و(حسني مبارك) والملوك والأمراء العرب وغيرهم إلا
خير أمثلة على ذلك. وبعد أن توفي (عبد الناصر) عام (1970) سارع خليفته (السادات)
بنقل مصر إلى حضن الغرب بصورة كاملة ونهائية، وقام بتوقيع معاهدة السلام والتطبيع
مع (إسرائيل) بعد مسرحية (حرب تشرين) عام (1973)، ليأتي بعده (مبارك) ويجعل من مصر
ليس فقط شريكة بالسلام مع الدولة العبرية، إنما وحليفاً لها أيضاً. ولكن وبعد أن
أسقطه (الربيع العربي) في مطلع عام (2011)، سارع الغرب مع (إسرائيل) إلى التآمر
على الحكومة المنتخبة. ثم وبالتنسيق مع أداتهم القوية الموالية لهم، الجيش، قام
الأخير بانقلابه الشهر الماضي، ويقوم الآن بالعمل على إعادة إنتاج نظام (مؤتمن)
آخر على أمن وأمان جارته مع بعض الرتوش ومساحيق التجميل.
سورية:
كلنا عرفنا بالوثيقة التاريخية التي تم كشفها قبل أشهر في الأمم المتحدة والمرسلة
من وجهاء الطائفة العلوية (بما فيهم جد الأسد) إلى وزير الخارجية الفرنسي عام
(1936)، مطالبة فرنسا بعدم الرحيل عن سورية أو منح العلويين وطناً قومياً في جبال
الساحل إسوة بالوطن المزمع منحه لليهود في فلسطين. وقد كشفت هذه الوثيقة حقيقة
الدور الفرنسي كعراب (الدولة العلوية) وإيصالها إلى حكم سورية لتكون حليفاً وسنداً
لدولة (إسرائيل) المستقبلية، خاصة وأن العلويين أعلنوا وبصراحة تعاطفهم مع مشروع
الدولة اليهودية في تلك الوثيقة. ولذا لم تكن سورية قد استقلت عن فرنسا عام 1946
وأعادت انتخاب زعيمها الوطني (شكري القوتلي) لفترة ثانية، حتى أتاها أول إنقلاب
عسكري عام (1949) ولتتبعه المزيد من الانقلابات المشابهة خلال السنوات الستة اللاحقة.
ثم عاد (القوتلي) بالانتخاب إلى الحكم عام (1955) لينجز الوحدة مع مصر عام (1958)،
ولكن وكما ذكرت، فلم يكتب لهذه التجربة الرائدة الاستمرار إلا لثلاث سنوات وذلك
لأسباب عديدة أهمها تخبط السياسة المصرية في سورية وتحديها لمشاعر السوريين. ثم
أتى انقلاب آذار عام (1963) الذي وضع حزب البعث اليساري في الحكم، وهو الحزب الذي
تأسس في فرنسا ثم تم تصديره إلى سورية بغلاف وطني وشعارات قومية ليكون في نهاية
المطاف (حصان طروادة) الذي أوصل (العلويين) إلى سدة الحكم. فكان ذلك مع (صلاح
جديد) عام (1966) ثم مع آل الأسد عام (1970) ليكتمل الوعد الفرنسي باقامة (الدولة
العلوية) الحارسة لأمن وأمان (إسرائيل). وقد بلغ غرام (الأسد) ونظامه بالدولة
العبرية، وكراهيته للشعب السوري خاصة والعربي عامة، أنه أهداها (الجولان) في حرب
حزيران دون قتال، وساعد على إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام (1970). وبعد
مسرحية حرب تشرين عام (1973) عقد مع (إسرائيل) بسمسرة أمريكية صفقة (لبنان بدل
الجولان)، فسمحوا له باحتلال لبنان (1975) والبقاء فيه، ليعمل مع الجيش الاسرائيلي
على إخراج المقاومة الفلسطينية منه عام (1982). ولولا تجاوز (الأسد الابن) للخطوط الغربية
الحمراء باغتيال (رفيق الحريري) عام (2005) لما كانوا أجبروه على سحب جيشه من هناك
بشكل مهين، ومع ذلك كانت (إسرائيل) من الدول القليلة التي عارضت ذلك الانسحاب.
إذن هؤلاء هم جيران (إسرائيل) والذين تم
تفصيلهم ببراعة ليناسبوا مقاساتها واحتياجاتها وأمنها وأمانها. ولهذا نرى كيف
سارعت الأخيرة مع الغرب لاجهاض انتصار الثورة المصرية ثم ضربها بالانقلاب العسكري
الشهر الماضي. وكيف مازالت تضع الفيتو الحقيقي لحماية (الأسد) طالما أن الثورة لاتريد
الاكتفاء بازالته وحده، كما جرى في اليمن، وإنما مع النظام من جذوره. والسبب في
ذلك إدراك (إسرائيل) بأن إزالة النظامين المصري والسوري الحاليين من جذورهما يعني
أن الدور سيأتي عليها. من كل هذا، أرى أن ثورات الربيع العربي على أنظمة بلادنا اليوم
إنما هي استمرار للثورات التي قامت قبل عقود ضد الاستعمار الغربي، لأن ذلك
الاستعمار هو من وضع تلك الأنظمة كوكلاء بالنيابة عنه لخدمة مصالحه من جهة وحفظ أمن
وأمان (إسرائيل) من جهة ثانية، وجعل هذه الأنظمة كحقول الألغام بحيث يؤدي الاقتراب
منها لازالتها إلى تفجير وحرق البلد بمن فيه.
***
يسمح بنشرها دون إذن مسبق
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 12 شوال 1434، 19 آب، أوغست 2013
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق