في خطاب له
مؤخراً، أتحفنا وزير الدفاع المصري وصاحب ماسماه (تصحيحاً لمسار الثورة)، في حين
أنه مازال يبدو (انقلاباً عسكرياً)، أتحفنا بعبارة أقل مايقال فيها أنها (غير
موفقة) أو أنها (في غير مكانها وزمانها). وهذه العبارة هي أن الجيش المصري (جيش أسد
بجد، والأسد ماياكلش ولاده)، حيث كان يحاول تطمين الشعب بأن الجيش لن يتورط بسفك
دماء الناس مهما كانت ولائاتهم السياسية. ولكن لو دققنا النظر في العبارة لوجدنا
فيها خطأين قاتلين لايحسد على ارتكابهما: واحد علمي وآخر سياسي.
أما العلمي،
فمن الحقائق الطبيعة التي لاجدال فيها، أن (الأسد) في الغابة يمكن أن يقتل أشباله
في حال شعر أنهم ينافسونه على اهتمام اللبوة الأم أو على الطعام، أي أنه يمكن أن
يقتلهم فيما إذا أغضبوه أو شعر بأنهم يهددون مصالحة ومكاسبه، أما إذا كان يأكلهم
بعد ذلك أم لا، فلا أعتقد أن الأكل أو عدمه يهم كثيراً بعد القتل. وبالتالي فنرى
أن هذه العبارة، وبدلاً من أن تطمئن الناس على دمائهم، فهي على العكس من ذلك، ترسل
لهم تهديداً مباشراً بأن الجيش، كأسد الغابة، سيقتلهم فيما إذا أغضبوه. وحين يتفوه
أي مسؤول بعبارة كهذه، فهناك أحد تفسيرين لاثالث لهما. فإما أن هذه الحقيقة
العلمية البسيطة قد غابت عنه، وبالتالي قال ماقاله عن جهل أو زلة لسان، وفي هذه
الحالة فهو رجل غير مؤهل لأن يكون وزيراً ولأن يشغل منصباً قيادياً كهذا. وإما أنه
يعي تماماً مايقول، وأراد أن يوجه رسالة تهديد لمعارضيه ليسلموا بالأمر الواقع ويعودوا
إلى بيوتهم، وإلا فقد يتعرضون (للأكل)، خاصة وأن (شهر الصوم) قد انتهى وبات
(الأكل) مباحاً على مدار الساعة.
هذا كان
الخطأ العلمي الذي ارتكبه (السيسي) حين تفوه بتلك العبارة، أما الخطأ السياسي فكان
أسوأ وأكثر جسامة بمراحل. فبمجرد تفوه أحد بكلمة (الأسد) هذه الأيام، ستتبادر
لمخيلة المستمع صورة (الأسد الابن) سفاح سورية الذي وظف جيشه وميليشياته وشبيحته
وحلفائه لحرق البلد على مدى السنتين والنصف الماضية. (الأسد) الذي قتل وشرد
الملايين من الشعب السوري، لالشئ وإنما لأن هذا الشعب رفض إيقاف المظاهرات
والاحتجاجات وأراد التخلص منه ومن نظامه العسكري الديكتاتوري المتوحش. وبالتالي
فحين يقف (السيسي) ويقول أن جيشه مثل (الأسد)، فكأنه يقول لمعارضيه أنهم سيلقون
مصير اخوتهم السوريين في حال استمروا في المظاهرات والاحتجاحات ومعارضة إرادته.
وإذا افترضنا جدلاً أن الرجل ربما كان (جاهلاً) بالحقيقة العلمية التي تؤكد أن قتل
(أسد الغابة لأشباله) وارداً، إلا أنه لايمكن لعاقل أن يفترض جهله بمايفعله (الأسد
الابن)، وما فعله من قبله (الأسد الأب)، بالشعب السوري وسورية. وعلينا أن لاننسى
أن الأخير أيضاً أطلق على انقلابه العسكري عام 1970 اسم (الحركة التصحيحية) مدعياً
بأنه أتى ليصحح مسار الثورة، فانتهى بارتكاب مجزرة حماة الشهيرة عام 1982 والتي
(أكلت) أكثر من خمسين ألفاً من المدنيين العزل في بحر اسبوعين، هذا ماعدا عشرات
الآلاف الذين قتلوا في غياهب السجون، ناهيك عن (أكل) الأب والابن للأخضر واليابس
في البلاد.
ولاأحتاج
هنا للاعتذار من (السيسي) لأقول بأنه لم يكن صادقاً حتى في المعنى الظاهر لعبارته
تلك. فلم يعد سراً أن كافة الجيوش العربية، بلا استثناء، يصرف على تسليحها
وتدريبها الغالي والرخيص لحماية الأنظمة الديكتاتورية المنوط بها ضمان مصالح الغرب
والشرق من جهة، وكذلك أمن وأمان إسرائيل، وخاصة من قبل تلك المجاورة لها، من جهة
ثانية. وهذه الجيوش ليست فقط مستعدة لتأكل أبنائها، ولكن أيضاً لتحرق البلد بما
فيه إذا ماتم تهديد أنظمتها وبالتالي المهام المناطة بها. فمن ناحية إسرائيل، مازلنا
نذكر كيف انطلق جيش (الأسد الأب) إلى لبنان عام 1975 بحجة إيقاف الحرب الأهلية،
لينتهي بتصفية المقاومة الفلسطينية هناك وإخراجها إلى تونس بمساعدة الجيش
الإسرائيلي عام 1982، وكذلك ارتكابه لمجزرة مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في
مثل هذا اليوم (12 آب) 1976 انتقاماً من عدم انصياع (ياسر عرفات) لأوامره. وأيضاً
يحضرنا قبل ذلك قصة الجيش الأردني مع المقاومة الفلسطينية عام 1970 فيما عرف
بايلول الأسود، وقصة الجيش والميليشيات اللبنانية مع الفلسطينيين في مخيمي صبرا
وشاتيلا عام 1982، وأخيراً وليس آخراً فرض الجيش المصري الحصار على قطاع غزة خلال
حكم (مبارك) بعد انسحاب إسرائيل منه عام 2005، واستعادة ذلك الدور بعد الانقلاب
على (مرسي) مؤخراً. هذا بخصوص ضمان أمن وأمان إسرائيل، أما بخصوص ضمان أمن الأنظمة
نفسها، فما زالت تحضرنا مجازر الجيوش العربية ضد شعوبها طوال فترة مابعد الاستقلال،
وتلك العراقية والجزائرية والسودانية والليبية وأخيراً السورية والتي تبررها
بمحاربة الارهاب وإفشال المؤامرات لخير دليل على ذلك.
وقد يتنطح
البعض بأن الجيش المصري كان بامكانه التدخل وقتل (أكل) المتظاهرين لحماية نظام
(مبارك) ولكنه لم يفعل ووقف مع الشعب. في الحقيقة أنه لم يقم بذلك من أجل الشعب،
ولكنه لم يأخذ الضوء الأخضر من أمريكا، مصدر تسليحه وتدريبه، للقيام بذلك. فقد
آثرت إدارة (أوباما) حينها إزالة (مبارك) كشخص مع أسرته للمحافظة على النظام ثم
إعادة إنتاجه بصورة أقل بشاعة، وهذا مانراه قد حصل بانقلاب (السيسي)، وماحصل في
اليمن ويحصل في تونس، ومانراهم يحاولون تحقيقه في ليبيا وسورية. ولكن يقول التاريخ
أن الشعب هو في النهاية من ينتصر و(يأكل) من يحاول أن يأكله مهما طال الزمان.
ومافعله الشعب الليبي في ثورته ضد جيش (الاحتلال الايطالي) ثم ضد مرتزقة وميليشيات
(القذافي)، ومافعله الشعب السوري ضد جيش (الاحتلال الفرنسي) ومايفعله الآن ضد
صنيعة فرنسا، شبيحة وجيش (الأسد) العلوي، لخير دليل على ذلك أيضاً.
نرى مما سبق
أن (السيسي) لم يكن موفقاً أبداً، لاعلمياً ولاسياسياً ولاواقعياً، باستعمال كلمتي
(الأسد) ولا (الأكل) في عبارته ليطمئن بها الشعب المصري على دمائه. فقد كان باستطاعته
تشبيه جيشه بأنه مثل (الأم الحنون) التي تعطف على أولادها وتحميهم في نفس الوقت، أو
مثل (الأرض الطيبة) التي تنبت الزرع وتخرج الماء للناس أو غير ذلك. أما وأنه قال
ماقاله، فقد أثبت بذلك أن (العسكر) حين يمارسون
العمل السياسي إنما يشبهون (الحداد) حين يمارس مهنة (الصياغة)، وينطبق عليهم المثل
الشعبي الذي يقول (سألوا الجمل: شو بتشتغل؟ قال لهم حلواني. قالوا له: باين عليك
وعلى إيديك الطرايا)، و(السيسي) بالذات، وبعبارته هذه، ينطبق عليه المثل الذي يقول
(إجا ليكحلها، آم عماها). وعلى كل حال فان الأيام القليلة القادمة ستوضح فيما إذا
كان الرجل قد أخطأ التعبير أو تقصده، وأيضاً مدى (طراوة) يديه من قساوتها وإذا كان
(سيكحل) أم (سيعمي).
***
يسمح بنشرها دون إذن مسبق
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 5 شوال 1434، 12 آب، أوغست 2013
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق