الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2013-08-15

نظرات في تاريخ الوجود – بقلم: د. أحمد محمد كنعان

إن الحمد لله ، مُقَدِّر الأسباب ، مسيِّر الأحداث ، الذي أنزل القرآن الكريم وذكر فيه من تاريخ الأمم الغابرة ما فيه موعظة وبلاغ لقوم يتفكرون . والصلاة والسلام على خاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله ، صاحب الرسالة الخاتمة التي شكلت نقطة تحول حاسمة في التاريخ.
أما بعد :
فإن الله عزَّ وجلَّ يدعونا في كتابه الكريم ، مراراً وتكراراً ، للنظر في مسيرة هذا الوجود وما حصل فيه من أحداث ، في الماضي والحاضر ، بل وما سوف يحصل في المستقبل ، لأن ذلك من دواعي الإيمان بالله عزَّ وجلَّ ، واستشعار قدرته وسَعَة علمه ، ولأن التفكر بمسيرة الوجود يمنحنا المعرفة الصحيحة بسنن التاريخ ، ويعيننا على القيام بأمانة الاستخلاف في الأرض على الوجه الذي شرعه الخالقُ عزَّ وجلَّ .


وكم كنت في لحظات التأمُّل والتفكُّر والتدبُّر أسرح بخيالي في ملكوت الله الواسع ، وأتجول في مسارب التاريخ ، فأرى الكون في لحظات تشكله الأولى ، وأرى تدفق الحياة عبر الأيام والشهور والسنوات والعصور ، وأرى فعل الإنسان في هذه الدنيا ، فيأخذني العجب وأنا أتفكر بذلك كله ، وكم كانت دهشتي عظيمة حين عرفتُ أنَّ هذا الكون الفسيح بما فيه من ذرات ، ومجرَّات ، ومخلوقات حية وغير حية ، لا تعدُّ ولا تحصى ، قد بدأ من نقطة ضئيلة جداً هي أقرب إلى العَدَم ، بل هي العدم نفسه كما ثبت لعلماء الكون مؤخراً ، ثم راح الكون بأمر الله عزَّ وجلَّ يتشكل وينمو ويتوسع حتى صار إلى الصورة التي هو عليها اليوم ، والتي لا يمكن لعقل بشري مهما بلغ من القدرة والذكاء والخيال أن يحيط بجزء ضئيل من صورته ، ناهيك عن أن يحيط بالصورة كلها !

تاريخ الكون :
وإن من يتأمل مسيرة هذا الوجود عبر العصور ، وما جرى فيه من أحداث ، وما أبدعته عبقرية الإنسان من إنجازات عظيمة ، وما اقترفته يداه من كوارث وآثام ومآسٍ وحماقات ، ليلاحظ عدة ملاحظات تأخذ بالألباب ، في مقدمتها أن الله عزَّ وجلَّ خَلَق كل شيء في هذا الكون وقدَّره تقديراً دقيقاً كما قال تعالى : ( وخَلَقَ كلَّ شيء فَقَدَّرُهُ تَقْديراً ) سورة الفرقان 2 ، وجعله يمضي إلى أجل مسمى وفق برنامج زمني محكم لا يتقدم لحظة ولا يتأخر ( مَا خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرْضَ وما بَيْنَهُمَا إلا بالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمَّىً ) سورة الروم 8 ، وفي كل يوم تطالعنا الكشوف العلمية المتلاحقة بأخبار تؤكد هذه الحقيقة بالمعادلات والأرقام والإحصائيات الدامغة كما سوف نرى من خلال هذه الموسوعة وما تضمنته من أحداث وحقائق وأخبار ومعلومات تأخذ بالألباب .

ويصوِّر القرآن الكريم الفترات الأولى من حياة هذا الوجود ، ويذكر ما مرَّ به من تغيرات كونية كبرى تمخضت آخر المطاف عن خلق السماوات والأرض ، وتشكيل النجوم والكواكب والأقمار والمجموعات الشَّمسية والمجرَّات ، وهذا ما كشفه علماء الفلك ابتداء من أواسط القرن العشرين ، أي بعد أربعة عشر قرناً من نبأ القرآن الكريم ، وهم يرجحون أن هذه الأحداث الكونية الكبرى بدأت قبل حوالي (13,7 مليار سنة) بانفطار عظيم ( Big Bang ) أعلن بصوت مجلجل عن ولادة الكون ، تلاه أحداث كونية هائلة متلاحقة سريعة عميقة إلى حد مذهل يعجز العقل البشري عن تصوره ( الجدول ) :
( التسلسل الزمني للمراحل الكبرى في خلق الكون )

ملاحظـــــــــــات

الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــدث

الزمن من بداية الانفطار العظيم
الحرارة  3710 درجة مئوية
وقع الانفطار العظيم معلناً بداية خلق الكون
صفر (10-45 ثانية)
حجم الكون أكبر قليلاً من حجم المجموعة الشمسية
بدأت الطاقة تتحول إلى مادة غير محددة المعالم ، وولدت القوى الأربع الرئيسية في الكون (الجاذبية ، الكهرومغناطيسية ، النووية الضعيفة ، النووية القوية)
1 ثانية

تكونت نوى الهيدروجين ، ثم الهليوم ، وبعض نوى المعادن الخفيفة المشتقة من هذين العنصرين
100 ثانية

تكونت ذرات العناصر الكيميائية المعروفة ، وانتثر الركام أو السديم الكوني ، وبدأ تكون بذور المجرات
3000 عام
حجم الكون أصغر قليلاً من حجمه الحالي ، هبطت درجة حرارة الكون إلى 2,7 درجة مطلقة
تكونت المجرات
مليار عام
تضم 10 كواكب بما فيها أرضنا ، ومجموعة كبيرة من الأقمار التي تدور حولها
ولدت مجموعتنا الشمسية
8,4 مليار عام


عمر الأرض 600 مليون عام
توالت على الأرض ثلاث كوارث رهيبة :
1. الرجم بأمطار هائلة من الشهب والنيازك وكتل الصخور الهائلة
2. تجمد كل ما على الأرض بسبب ضعف حرارة الشمس
3. اجتاحت عواصف الأكسجين السام جو الأرض وبدأ نشوء الحياة من الصلصال ذي التقانة الخفيضة
9 مليار عام

عمر الأرض 800 مليون عام
ظهر الحامض النووي RNA ذي التقانة الرفيعة الذي يعد نقلة نوعية في ظهور الحياة على سطح الأرض
9.2 مليار عام

عمر الأرض 900 مليون عام
ظهر الحامض النووي DNA الذي يمثل نقلة نوعية أخرى في تكوين الحياة لأنه أصبح وسيلة لحمل الصفات الوراثية ونقلها من جيل إلى جيل في المخلوقات الحية
9.3 مليار عام

عمر الأرض 3.4 مليار عام
حصل تمايز واضح ما بين مخلوقات المملكة الحيوانية ، ومخلوقات المملكة النباتية
11.7 مليار عام

عمر الأرض 4.1 مليار عام
حدث ما يشبه الانفجار العظيم في عالم الحياة ، فظهرت أعداد هائلة من طلائع المخلوقات الحيوانية التي نعرفها اليوم
12.4 مليار عام

عمر الأرض 4.6 مليار عام
ظهرت السلالات الأولى من الإنسان ، وقبل 100 ألف عام من الآن ظهرت سلالات الإنسان الحالي ، وبدأ تكوين المجتمعات البشرية ، وبدأ الإنسان عمارة الأرض
12.9 مليار عام

ويُصَوِّر القرآن الكريم هذه الأحداث المذهلة أبلغ تصوير بقوله تعالى : ( أوَلَمْ يَرَ الذينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَالأَرْضَ كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ، وَجَعَلنا منَ الماءِ كُلَّ شَيْء حَيٍّ ) سورة الأنبياء 30 ، ثم يصور القرآن الكريم انصياع السماوات والأرض وامتثالها للأوامر الإلهية التي لا تُرَدُّ ، بقوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ وَهيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَها وَللأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعَاً أو كَرْهَاً قَالَتَا أَتَيْنا طَائِعِين ) سورة فصلت 11 ، ويقدر علماء الفلك أن الكون الحالي يمتد في المساحة لأكثر من 100 مليار سنة ضوئية ، علماً بأن الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300,000 كلم ، ويقدر العلماء كذلك أن في الكون ما يزيد عن 100 مليار مجرة ، في كل منها ما لا يقل عن 250 مليار نجم ، منها نجوم عملاقة جداً لا تعد شمسنا على عظمتها شيئاً مذكوراً أمامها ، وكأن شمسنا أمامها كالشمعة أمام الشمس !

ويؤكد الرصد الفلكي الدقيق اليوم أن الكون لم يتوقف عند هذا الحد المذهل من الرحابة ، فهو مازال يمتد ويتوسع بسرعات فائقة تتجاوز مليارات الأميال في اللحظة الواحدة ، ولعل هذا ما يشير إليه قول الحق تبارك وتعالى : ( والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ وإنَّا لَمُوسِعُونَ ) سورة الذاريات 47 ، وتوحي بعض آيات القرآن الكريم أن هذه العملية الكونية لن تستمر إلى ما لا نهاية ، بل سيأتي على الكون يوم يتوقف فيه عن التوسع ، وتطويه كفُّ القَدَر لتعيده إلى نقطة البداية التي انطلق منها أول مرة ، ولعل هذا ما يشير إليه قوله تعالى : ( يَوْمَ نَطْوي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ للكُتُبِ ، كَمَا بَدَأنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنا إنَّا كنَّا فاعلين ) سورة الأنبياء 104 ، وقد أقرَّت الكشوف العلمية الحديثة بهذه الحقيقة القرآنية أيضاً ، وفصَّلتها بالمعادلات والأرقام ، وانتهت إلى أن الكون مادامت له بداية فلابد أن تكون له نهاية ، ومادام حال الكون كذلك فلابد أن يكون له خالق مدبِّر هو الذي قدَّر خَلْقَه وظهوره في هذا الزمن ، وعلى هذه الصورة ، وبهذا بَطَلَ إلى غير رجعة قولُ الفلاسفة الملحدين المشككين الذين زعموا أن الكون أزليٌّ قديمٌ ، وأنه هو الذي أوجد نفسه بنفسه من غير خالق .. وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً .

تاريخ الأرض والإنسان :
         ذلك هو عمر الكون وحجمه ، أما أرضنا التي نعيش عليها فلم تظهر إلى الوجود إلا منذ حقبة قريبة نسبياً يقدرها علماء الفلك بحوالي 4,6 مليار سنة ، وقد ظلت أرضنا جدباء قاحلة لا أثر فيها للحياة زهاء 900 مليون سنة ، ثم ظهرت فيها بوادر الحياة البدائية الأولى قبل حوالي 3,7 مليار سنة ، وعلى مدى ملايين أخرى متطاولة من السنين انتشرت في الأرض مختلف المخلوقات الحية من نبات وحيوان ، وتوِّجت هذه العملية الحيوية آخر المطاف بظهور طلائع البشر قبل حوالي 7 ملايين سنة حسب أحدث التقديرات العلمية ، وهذا يعني أن زمناً طويلاً جداً يقدَّر بمليارات السنين قد مضى على الكون قبل أن يظهر فيه الإنسان ، هذا المخلوق الفريد الذي يقرر القرآن الكريم أن السَّماوات والأرض قد خُلقت وسُخِّرَت من أجله كما قال تعالى : ( وَسَخَّرَ لكُمْ مَا في السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَميعَاً مِنْهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) سورة الجاثية 13 .
       
  وإذا ما قارنا تاريخ الإنسان بعمر الكون ، ومثَّلنا عمر الكون بكتاب ضخم مؤلف من مليون صفحة ، فإنَّ تاريخ الإنسان في الأرض لا يعدو أن يكون النقطة الأخيرة في هذا السِّفْر العظيم، وإذا مثلنا عمر الكون بالمسافة بين الأرض والشمس فإن عمر الإنسان لا يزيد عن خطوة واحدة في هذه الطريق الشاسعة ، وإذا قارنا تاريخ الإنسان بعمر الأرض ومثَّلنا عمر الأرض بسنة واحدة نجد أن الإنسان ظهر على مسرح الوجود في اللحظات الأخيرة ، أي في الساعة 4:15 من فجر آخر يوم من أيام هذه السنة الافتراضية ، وانظر معي إلى الرسم التالي لترى أن تاريخ الإنسان في هذا الوجود لا يكاد يساوي شيئاً بالمقارنة مع عمر الكون ، أو عمر الأرض ، أو عمر الحياة في الأرض !   

( مقارنة عمر الإنسان بأعمار الكون والأرض والحياة )

        وهذا يعني أن أحداثاً جساماً قد جرت في غيابنا نحن البشر قبل أن نصبح شيئاً مذكوراً في هذا الوجود ، وصدق الله العظيم الذي يبين هذه الحقيقة الكونية في محكم آياته فيقول تعالى: ( هَلْ أتى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُورَاً ) سورة الدهر 1 ، ونستشف من هذه الحقيقة أن الإنسان مازال عند البدايات ، وكأن القلم الذي يسطِّر تاريخ الإنسان مازال عند الحرف الأول ، وكأن الإنسان عبر تاريخه الماضي كان يعيش مرحلة الحمل في رحم أمه الأرض ، وما هذا الإنجاز العظيم الذي حققه حين اخترق أجواز الفضاء ووطئت قدماه أرض القمر ( عام 1969 ) إلا المخاض أو الإعلان الرسمي عن ولادته ، وخروجه من رحم أمه إلى ملكوت الله الواسع ، ليصل إلى العوالم البكر .. البعيدة .. فيعمر بقية الكواكب بعد أن عمر الأرض ، ويسطر المزيد والمزيد من صفحات التاريخ ، قبل أن يصل إلى خط النهاية التي لا يعلم مداها إلا الله عزَّ وجلَّ .

ومن خلال استقراء هذه الحقائق الكونية في ضوء ما جاء بكتاب الله الكريم ، فإننا نعتقد أن الإنسان سوف يعمر الكون لعصور متطاولة قادمة ، هي أطول بكثير مما يخطر عادة في بالنا، ونحن حين نسرح بفكرنا على هذه الصورة التي تبدو للوهلة الأولى مغرقة في الخيال فإننا لا نرجم بالغيب ، ولا نرسم رؤيتنا من سراب ، بل نستلهمها من ذلك الحوار السماوي الذي جرى بين الخالق عزَّ وجلَّ وملائكته حين أخبرهم سبحانه عن اقتراب ميلاد الإنسان في الأرض : ( وإِذْ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جَاعِلٌ في الأرضِ خَليفَةً ، قالوا أتجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) سورة البقرة 30 ، فإن قوله تعالى : ( إنِّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يوحي بأن هذا الإنسان سوف يفعل الكثير مما لم يخطر حتى على بال الملائكة المقربين عليهم السلام .

ويبدو أن هذه العصور المتطاولة التي مرَّ بها الوجود وهو يتهيأ لاستقبال "الخليفة" توحي بأن إقامته في هذه "الدار" سوف تطول ، وإذا ما أردنا التمثيل ـ ولله سبحانه المثل الأعلى ـ فإن هذه الحالة تشبه حال الذي يبني داراً في عام واحد ليقيم فيها أعواماً مديدة ، فكذلك نعتقد بأن الخالق العظيم قدَّر لهذا الوجود أن يُعَمَّر عبر آماد طويلة ليحتضن الإنسان آماداً طويلة كذلك .

ونحن نرى أن هذه الرؤية لا تتعارض مع النصوص التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية عن اقتراب يوم القيامة ، من مثل قوله تعالى : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ ) سورة القمر 1 ، وقوله تعالى : ( إنَّ السَّاعَةَ آتيَةٌ أكادُ أخْفيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعَى ) سورة طه 15، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بُعِثْتُ والسَّاعَة كَهاتينِ ، وَقَرَنَ بَيْنَ سَبَّابَتِهِ والوُسْطَى ) ، فقد مضى على هذه النصوص أربعة عشر قرناً من الزمان ولم تقم القيامة بعد ، ما يوحي بأن مسألة الزمن المشار إليها في هذه النصوص نسبية ، ومادام تاريخ البشرية الذي مضى حتى الآن لا يعد شيئاً مذكوراً إذا ما قورن بعمر الكون كما ذكرنا آنفاً ، فإن ما تبقى من عمر البشرية أقل وأقصر من أن يعد شيئاً مذكوراً حتى وإن بلغ ملايين السنين .

وقد وردت الإشارة إلى نسبية الزمن والعمر والأجل في آيات عديدة ، منها قوله تعالى : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنين . قالوا لَبِثْنا يَوْماً أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاْسأَلِ العَادِّينَ . قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلا قَليلاً لَوْ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ ) سورة المؤمنون 112 ـ 114 ، ومن ثم فإننا نرى أن هذه الحقائق الكونية لا تتعارض مع نصوص الكتاب والسنة ، مع التذكير بعدم الغفلة أو التراخي بحجة أن بيننا وبين القيامة أمداً بعيداً ، لأن الإنسان حين يموت ينقطع عمله ، ويمسي رهن المشيئة الإلهية ، فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، ولن ينفعه في شيء أن يتقدم يوم القيامة أو يتأخر .

الفعل البشري الذي غيَّر وجه العالم :
        وحين نستعرض تاريخ الإنسان في هذا الوجود ، منذ لحظاته الأولى وحتى الآن ، فسوف نفاجأ بأنه قضى الشطر الأكبر من تاريخه الغابر ( 7 ملايين سنة ) هائماً على وجهه في الفلوات ، وهو يصارع عناصر الطبيعة وظواهرها الشرسة ، قبل أن يألفها ويستأنسها ويسخرها لخدمته ، ولم يعرف الاستقرار النسبي إلا منذ ( 50 ألف سنة ) فقط حين اهتدى للمبيت داخل الكهوف ، ولم يعرف الاستقرار الفعلي في الأرض إلا منذ فترة قريبة جداً قد لا تزيد عن ( 10 آلاف سنة ) حين عرف الزراعة ، وبدأ يرتبط بالأرض ، ويبني أكواخه وبيوته البسيطة ، ويُشَكِّل مجتمعاته البدائية ، ثم قُراه ومُدُنه وحضاراته ، وقد ضحى في سبيل ذلك بالكثير ، وخاض معارك طاحنة في مواجهة الطبيعة من جهة ، وفي مواجهة أخيه الإنسان من جهة ثانية .
      وقد بيَّن الباحث المستقبلي الأمريكي "ألفين توفلر" في كتابه القيِّم ( صدمة المستقبل)(1) أن الخمسين ألف سنة الماضية من عمر الإنسان ، منذ استقراره في الأرض ، إذا ما قسمت إلى أجيال مدة كل منها 62 عاماً هو متوسط عمر الإنسان ، فإنَّ ناتج القسمة يكون 800 جيل ، جرت أحداثها على النحو الآتي :
      - أمضى الإنسان منها زهاء (650 جيلاً ) داخل الكهوف .
      - ولم يعرف الكتابة إلا منذ ( 70 جيلاً )
      - ولم يعرف الطباعة إلا منذ ( 6 أجيال )
      - ولم تتوفر له وسيلة دقيقة لقياس الوقت إلا منذ ( 4 أجيال )
      - ولم يعرف المحرك الكهربائي إلا في الجيلين الأخيرين .
      - أما بقية الأدوات والمخترعات والأجهزة التي ننعم بها اليوم فقد ظهرت خلال الجيل الأخير من القرن العشرين .
ويبين لنا هذا الاستعراض الزمني لتاريخ الإنسان أن تأثيره الفعلي في الأرض لم يبدأ إلا منذ لحظات قريبة جداً ، وذلك حين بدأ يسخِّر العلمَ في حياته بصورة منظمة دقيقة ، ولاسيما في القرون الميلادية الأخيرة ( 18 ، 19 ، 20 ) التي حقق فيها بعض الاكتشافات والاختراعات الأساسية ، مثل اكتشاف طبيعة المجموعة الشمسية وموقعها في الكون ، واختراع المحرك البخاري، وتسخير الطاقة الكهربائية ، ثم بقية الإنجازات والثورات العلمية المتلاحقة التي غيَّرت ملامح الحياة، ليس في الأرض وحدها ، بل في الفضاء أيضاً ، وعندئذ بدأ الإنسان يبدع هذه الإنجازات العظيمة التي تجاوزت حدود الخيال ، كما سوف نرى عبر صفحات موسوعتنا هذه .

القرن العشرون تحوُّل حاسم في التاريخ :
        ولسنا مبالغين إذا قلنا إن القرن العشرين الميلادي ـ الذي كنا بعض مودِّعيه ـ كان نقطة تحول حاسمة في التاريخ البشري(2) لأن ما شهده هذا القرن من أحداث وما تم فيه من إنجازات وكشوف علمية كان شيئاً يفوق الخيال ، فمع اقترابنا من مطلع هذا القرن بدأنا نلمح في الأفق تباشير ثورة علمية واعدة ، لم تلبث أن أسفرت سريعاً عن ثورات أخرى متلاحقة في شتى مناشط الحياة :
·      فقد استطاع الإنسان في القرن العشرين ـ لأول مرة في تاريخه ـ أن يفجر الذَّرة ، ويستخرج منها طاقة هائلة تجاوزت كل ما سمعناه أو قرأناه عن طاقة الجنِّ والعفاريت !
·      واستطاع الإنسان في هذا القرن بمخترعاته الدقيقة الحساسة أن يسمع ما لم يكن يسمع ، وأن يرى ما لم يكن يرى ، وأن يحقق ما كان إلى وقت قريب ضرباً من الخيال أو المستحيل !
·      واستطاع إنسان القرن العشرين أيضاً بوسائل المواصلات السريعة ، والاتصالات العابرة للقارات التي ابتدعها في هذا القرن ، أن يجعل من كوكب الأرض "قرية صغيرة" يتأثر أدناها بما يحدث في أقصاها بلمح البصر ، وبهذا قارب الإنسان بعض الخوارق التي وردت في القرآن الكريم ، كتلك الخارقة التي طلب فيها نبي الله سليمان عليه السلام من يأتيه بعرش ملكة سبأ "بلقيس" من اليمن إلى فلسطين ، فقال له الذي عنده علم من الكتاب : (أنا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ) سورة النمل 40 . وهكذا كان فما هي إلا لمحة حتى كان العرش بين يدي سليمان عليه السلام . وقد حقق الإنسان في هذا القرن الكثير من مثل هذه الخارقة !
·      واستطاع الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين ـ لأول مرة في تاريخه أيضاً ـ أن يتحرر من أسْر أمه الأرض ، فانطلق في السماء كالعصافير ، فزار أقرب جيرانه ، وحطَّ رحاله لأول مرة على سطح القمر ، ولم يكتفِ بهذا الإنجاز الذي تجاوز حدود الخيال ، بل بدأ على الفور يخطط لزيارة بقية الجيران .. هناك .. في العوالم البعيدة !

وقد تزامنت هذه الإنجازات العلمية العظيمة ـ خلال القرن العشرين ـ مع تحولات أخرى حاسمة ومثيرة جرت على الساحتين الاجتماعية والسياسية ، فأدت إلى تغييرات سريعة وعميقة في خارطة العالم ، وهذا ما جعل دورات الحضارة خلال هذا القرن قصيرة جداً لا تتعدى جيلاً أو جيلين ، على النقيض من الحضارات الغابرة التي عاش بعضها آلاف السنين ، وتعاقب عليها عشرات الأجيال !

ففي مطلع القرن العشرين بدأت تلوح في الأفق إرهاصات تنذر بأحداث جسام ، وكانت الأرض على موعد مع مسرحية عالمية مغرقة في دراميتها(3) ، توزعت أدوارها الرئيسة بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا في أوروبا ، ثم اليابان التي دخلت المسرح على عجل من هناك من أقصى الشرق، فيما دخلت الولايات المتحدة من أقصى الغرب في عام 1917 قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى ، وراحت على الفور تستعرض قدراتها المسرحية في محاولة جادة لتستأثر بدور البطولة ، وفي الوقت نفسه دخل الاتحاد السوفياتي من أعالي آسيا رافعاً راياته الحمراء باحثاً له عن دور يليق بحجم ثورته الشيوعية التي أزهق من أجلها ملايين الأرواح ، أما في القلب من العالم فإن "الرجل المريض" الذي حكم العالم عدة قرون باسم الخلافة العثمانية ، تحت راية الإسلام ، فقد وقف يلقي كلماته الأخيرة استعداداً لمغادرة الخشبة !

إلا أن فصول المسرحية لم تمض إلى النهاية كما تخيلها الزعماء مؤلفو السيناريو(4) ، فقد خرج بعض أبطال المسرحية عن النَّص ، وحدث في الصالة جَلَبَةٌ وصَخَب ، وجاءت كارثة "الحرب العالمية الثانية" في أواسط القرن العشرين لتخلط الأوراق بشدة ، وتدخل على الإخراج تعديلات مثيرة ، فأسندت دور البطولة للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ، وتركت أدوار الكومبارس(5) لكل من فرنسا وبريطانيا ، فيما خرجت ألمانيا واليابان إلى الكواليس(6) بحالة مأساوية يرثى لها ، أما بقية الخلق فقد غرقوا في عتمة الصالة واسترخوا في مقاعد المتفرجين ، مكتفين بالصراخ حيناً ، وبالتصفيق أحياناً أخرى !

ويبدو أن أصداء هذه الأحداث الصاخبة قد وصلت أخيراً إلى "النمر الصيني" الذي طال انتظاره خلف الكواليس ، فقام بحذر يتلصص على المشهد ليعرف ما الذي حصل في غيابه ؟!

وكذلك فَعَل العالَم الإسلامي الذي هزته الأحداث المفجعة بإلغاء الخلافة الإسلامية ، وسقوط فلسطين في أيدي الصهاينة (عام 1948) ، وتقسيم المستعمرين للوطن العربي إلى دويلات ضعيفة متناحرة ، فقام العالَم الإسلامي يراقب المشهد باهتمام ، ويعيد ترتيب أوراقه استعداداً لدوره الكبير المنتظر !

ومرة أخرى ـ قبل أن تُسْدَل الستارة على آخر مشاهد القرن العشرين ـ عاد الصخب والضجيج في صالة المسرح احتجاجاً على الأداء ، وتخلل الفصل الأخير من القرن العشرين مواقف تراجيدية(7) جعلت المشاهدين في حيرة من أمرهم ، فقد فشل الاتحاد السوفياتي فشلاً ذريعاً في لعب دور البطولة بالرغم من محاولاته الثورية المتكررة التي خَلَبَت ألبابَ "الرفاق" ، وانسحب من المسرح متعثراً مكسور الخاطر يداري دموع الهزيمة والفشل ، بينما عادت ألمانيا واليابان تطالبان بدور البطولة ، فيما ظلت فرنسا وبريطانيا تراوحان بين بين !

أما الولايات المتحدة فيبدو أن "استديوهات هوليود" السينمائية قد زودتها بخبرات متميزة مكنتها من لعب دور البطولة بجدارة حتى كادت تنفرد بأداء بقية الفصول ، لولا أن تعديلات جديدة أدخلت على السيناريو في اللحظات الأخيرة من القرن العشرين ، وظهر نجم "الاتحاد الأوروبي" على الخشبة ليناكف الولايات المتحدة دور البطولة ، فيما ظلَّ النمرُ الصيني يتابع المشهد من خلف الستارة ، ويعيد قراءة السيناريو بهدوء متحيِّناً الفرصة المناسبة ليعتلي الخشبة ، أما العالم الإسلامي الذي طال انتظاره خلف الكواليس وأخذته سِنة طويلة من النوم ، فقد دبَّت فيه "صحوة" مفاجئة ، وتذكر أمجاده الغابرة ، وأدوار البطولة التي ظلَّ يمثِّلها لعدة قرون ، فقام منتفضاً ، وألقى الألواح ، وأطلَّ على المشاهدين دون استئذان ، وراح يرتجل الدور كما يريده هو، لا كما يريده المخرِج .. ومازال العرض مستمراً !
         
هكذا بدت لنا صورة العالم مع أفول شمس القرن العشرين وإطلالة القرن الجديد ، وإننا مع كل ما قدمناه من استعراض لتاريخ البشرية الماضي ، ومع ما تفيض به قلوبنا من آمال وأحلام وردية نتمناها للبشرية في مستقبل أيامها ، فإن لدينا جملة من الملاحظات العامة حول نظرتنا للتاريخ ، نرى أن نقف عندها وقفة تأمل وتدبر ، لتكون بمثابة دليل عام لكل من أراد أن يتفكر في سنن التاريخ ، ويستفيد من دروسه وعبره التي لا تنفد .. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى .
د.أحمد محمد كنعان




(1)  ترجمة محمد علي ناصف ، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة 1990 .
(2)  انظر تفاصيل هذه الرحلة الشيقة في كتابنا ( ذاكرة القرن العشرين ) دار النفائس ، بيروت 2000 .
(3)  الدراما : المسرحية التي تنطوي على تداخل وتناقض في الأحداث .
(4)  السيناريو : الملاحظات التي يضعها المؤلف حول دور كل شخصية في المسرحية .
(6)  الكواليس : دهاليز تعد خلف المسرح لاستراحة الممثلين وإعداد أنفسهم للدور المقبل .
(7)  التراجيديا : المسرحية المأساوية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق