المستقبل - السبت 31 آب 2013 - العدد 4791 - شؤون لبنانية - صفحة 3
تتعدد
الروايات حول ظروف اختفاء وظهور حسان المقداد معتقلاً في سوريا. ثمة من يقول إن
الرجل حاول اختراق مجموعات الثوار لصالح "حزب الله" فاستدرجوه واعتقلوه،
وثمة من يقول إن خلفية اعتقاله شخصية ومالية، وقد استغل فيها الخاطفون حال الفوضى
القائمة في سوريا، فخطفوه باسم "الجيش الحر". وثمة من يؤكد أن النظام
السوري أراد من خلال إظهاره معتقلاً في شريط مصوّر تفجير الأوضاع في لبنان. أياً
تكن الحقيقة فإن بث "اعترافات" حسان المقداد بالتزامن مع قصف مكان
احتجاز مخطوفي أعزاز أوجد الأرضية التي وقفت عليها مجموعة مسلحة من آل المقداد؛
أطلقت على نفسها اسم الجناح العسكري لآل المقداد.
الخطف بالجملة
منتصف
آب الماضي حدث اهتزاز خطير لأمن وصورة لبنان. المجموعات المسلحة جابت شوارع
الضاحية والبقاع علانية، وخطفت نحو 40 سورياً، وتركياً واحداً. هدّدت السوريين
والأتراك بالمزيد وطالبت الخليجيين بمغادرة لبنان.
انتشرت
حالات الخطف كالنار في الهشيم، وظهرت مجموعات تتكنّى بأسماء إسلامية وتتبنى اختطاف
رعايا أجانب، وتنسبها إلى آل المقداد أو تأتي بها إلى مقر رابطة آل المقداد. انشقت
عن هذه المجموعات مجموعات أخذت مخطوفين وهربت، ثم انتقلت الظاهرة إلى مواطنين
لبنانيين استغلوا انفلات الأمن، فخطفوا آخرين لأسباب لا علاقة لها بالمخطوفين في
سوريا (على سبيل المثال لا الحصر خُطف شخص من آل طحّان وطُلب مبلغ خمسين ألف دولار
فدية لإطلاقه).
من
بين هؤلاء المخطوفين ثلاثة سوريين "معتّرين" كانوا يعملون في مخمر
الموز، فتعرضوا للضرب ثم اختطفوا. وكان شخص من آل زعيتر على خلاف مع عمه السوري،
فقام بإبلاغ آل المقداد بوجود عمه زاعماً أنه من "الجيش الحر"، فخطفوه!،
و"صارت العالم تكبكب مخطوفين على آل المقداد" كما جاء على لسان حسن ضاهر
المقداد لدى استجوابه لاحقاً.
إعدام السياحة
وفي
سابقة عجيبة عقد "الجناح العسكري" لآل المقداد مؤتمراً صحفياً بحضور
"نائب عن الأمة" هو غازي زعيتر؛ ظهر فيه المتحدث باسم الجناح العسكري
ماهر المقداد، وقائده العسكري حسن المقداد. كانت اللهجة حاسمة والتهديدات عالية،
مع الإساءة إلى رئيس الجمهورية بوصفه "قاعد فوق"، مع رفض التفاوض مع
وزير الداخلية حول المخطوفين!. الأخير علّق بالقول: "ما جرى أظهر أن لا دولة
في لبنان".
وخلال
ساعات غادر مواطنو دول خليجية كبرى؛ كالسعودية والإمارات والكويت وقطر- مع التحذير
من العودة إلى لبنان-، ورفضت شركات طيران الهبوط في مطار رفيق الحريري، وقُضي على
ما تبقى من موسم سياحي أو فرص استثمارية.
لم
يكن ما حدث ليحصل لولا صمت "حزب الله" وتبرير إعلامه للأمر، وبروز نزعة
مذهبية الطابع لما جرى في البقاع والشمال (أهالي أكروم وآل جعفر)، وقطع طرق متبادل
على طريقي المطار والمصنع وتضامُن عشائر بقاعية مع ما قام به "الجناح العسكري
لآل المقداد"، ببيانات أصدرتها، بل تضامُن الشيخ عباس زغيب المكلف من
"المجلس الإسلامي الشيعي" متابعة قضية المخطوفين، بقوله: "قضيتنا
وآل المقداد واحدة وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" (15/8/2012 وقد تنصل
"المجلس الإسلامي الشيعي" من هذا الكلام باعتباره "تصريحات زغيب
تعبر عن رأيه الشخصي").
اعترافات بالقوة
ورغم
أن المسلحين خطفوا العشرات، إلا أنهم لم يستطيعوا اعتقال ناشط سوري واحد، فضلاً عن
منتمين إلى "الجيش السوري الحر". جل ما أظهروه هاتف جوال عليه شعار
للثورة السورية، يحمل أكثر النازحين ما هو أكثر منه في أجهزتهم الخلوية. أما
الاعترافات فقد جاءت كلها تحت الإكراه، بما في ذلك أربعة سوريين أظهروهم على شاشات
وسائل الإعلام بزعم أنهم عناصر نوعية للمبادلة، وقد حاولوا من خلالهم بيع جمهور
"حزب الله" - وهم منه- أدلّة على أمور يسمعونها في الإعلام السوري
والإعلام الحليف له، رجاء أن يكسبوا تعاطفاً شيعياً، لذا فقد أجبروا المخطوفين على
ادعاء صلتهم بالنائب خالد ضاهر والشيخ أحمد الأسير، وأُجبر أحدهم على إعلان
انتسابه إلى "حزب التحرير" (بعد تحرير المختطفين ظهر أن الاعترافات لم
تكن إلا افتراءات).
في
مقر "الجناح العسكري" لآل المقداد كانت وسائل الإعلام الحليفة ناشطة
ومتعاونة. قناة كـ"المنار" وشبيهاتها كانت تتحرك بسهولة. تلتقي قائد
"الجناح المسلح" وتجري معه المقابلات، وتروي وقائع "الأسر"
المتتالية، ومراحل فرزها بحسب أهميتها!
إعلام الخاطفين
إحدى
القنوات التلفزيونية التي يفترض أنها تمارس دوراً إعلامياً محضاً- بصرف النظر عن
توجهاتها- اشتركت فعلياً في الجريمة. قناة "الميادين" لم تتلق شريطاً من
الخاطفين جرى بثه، وإنما أُحضر مراسلها إلى مكان الاحتجاز، وسمع بأذنه كيف أُجبر
المخطوفون على قول ما يريده منهم الخاطفون، حتى وصل الأمر إلى اضطرار المراسل
لإعادة تسجيل "الاعترافات" ثلاث مرات على التوالي، وفق إفادة المحرَّر
السوري محمد رجا لاحقاً.
أما
في مقر رابطة آل المقداد فكان نجم اللقاءات ماهر المقداد رئيس الرابطة (12 عاماً
من الخدمة في السفارة الأميركية في المجال الأمني)، والتاجر في حينه (متزوج من
كندية ثم أميركية). وهج الكاميرات وهيبة السلاح جعلا الرجل في سياق يختلف عما كان
يفترض أن يقوم به. في البدء جاءه أشقاء حسان المقداد وكل من عماد ومحمد وحاتم
المقداد وطلبوا منه فتح مقر الرابطة، لتلاوة بيان يتعلق بالمخطوفين، لكنه تحمس
أكثر من اللازم لدى رؤية الصحافيين، فصار هو الناطق باسم جناح عائلته المسلح.
المؤتمر
الصحفي الأول لم يخلُ من إشكاليات أظهرت أن الحركة الإعلامية كانت مرتجلة. حاتم
المقداد الذي تلا بيان الجناح المسلح قبل أن يتسلم ماهر المنبر، قال كلاما قاسياً،
ثم جاء ماهر وغطاه (قال لاحقاً بعد توقيفه إنه لم يكن موافقاً على ما قيل)، لكن
الدكتور علي المقداد، الذي حضر إلى مقر الرابطة، رفض الكلام وظهر صوته على وسائل
الإعلام، فتصدى له حسن ضاهر المقداد وحصل هرج ومرج.
الدولة والغطاء
استغرق
الأمر ثلاثة أسابيع لتستيقظ الدولة وتوقف الخاطفين وتحرّر المختطفين، بدءاً
بزعيمهم حسن المقداد وصولاً إلى شقيقه ماهر رئيس رابطة العائلة، وآخرين غيرهم ممن
اشتركوا في الخطف أو ظهروا على الإعلام مع الخاطفين.
حصل
هذا الأمر بعد تأمين غطاء من "حزب الله" وحركة "أمل"، بعد إدراكهما
أن الأمر انقلب إلى عكسه وأن الفوضى عمّت، بما يؤثر على أوضاع المناطق التي يسيطر
عليها الثنائي الشيعي، وأن الظهور المسلح وفرض الخوات على المحال في منطقة صفير
وعلى أوتوستراد هادي نصر الله، بحجة حل إشكالات، بات مؤذياً.
وأياً
تكن الحسابات التي جعلت "حزب الله" تحديداً - يوافق على تصفية ظاهرة
"الجناح العسكري" لآل المقداد، فإن جهازاً امنياً تولى المهمة، بافتعال
إشكال قرب مجمع سيّد الشهداء في الرويس، بين أشخاص ليسوا من آل المقداد، فكلّف
"حزب الله" حسن قائد الجناح العسكري لآل المقداد والمعروف بالشيخ -
بحلّه، فما كان من الجهاز إلا أن أوقف حسن المقداد على نحو مفاجئ، "تنفيذاً
للاستنابات القضائية المتعلقة بعملية الخطف وبالأحداث الأخيرة التي حصلت على طريق
المطار" وفق بيانٍ صدر لاحقاً عن قيادة الجيش.
حصل
بعد ذلك إطلاق نار على الجيش، وقاد مايز المقداد مجموعة مسلحة في محاولة لإطلاق
حسن، ثم تدخل مسؤولون من الحزب والحركة، فاجتمعوا في حي الأميركان مع ممثلين عن آل
المقداد، طالبين منهم وضع حد لما يحصل، وفي هذا الاجتماع بالذات قال آل المقداد
لمسؤولي الحزب: "لقد خدعتمونا وبعتونا".
وإثر
توقيف حسن المقداد واصل شقيقه ماهر لعبة الخداع، زاعماً أن لا علاقة له بالخطف
(قال سابقا ما نصه: "سوف نعلن عمن لدينا من أسرى")، لكنه أكد أنه فقد
الاتصال بالخاطفين، وأنهم انتقلوا للبقاع، متحدياً قيادة الجيش أن تعرف مكانهم،
زاعماً أن المخطوف التركي أصيب بهجوم الجيش على الخاطفين، مدعياً أنه لا يعرف مكان
الإصابة "بالصدر أم الكتف، لكن خبر الإصابة صحيح". في هذا الوقت كانت
مخابرات الجيش تحرر المخطوفين جميعاً من الضاحية بمساعدة من الحزب.
ثم
هرب بعد ذلك ماهر المقداد، لكنه ما لبث أن أوقف قرب منزل أحد شهداء الحزب من آل
المقداد، فيما يعرف باسم المربع الأمني لـ"حزب الله". ماهر لم يقاوم،
وقال لضابط الجيش: "ليش معذبين حالكم، اتصلوا بي كنت سأحضر".
في
تلك الأيام من شهر آب الماضي وصل انفلات السلاح إلى ابعد مداه. الحكومة كانت
قائمة، لكنها مشلولة، ولم تتحرك إلا متأخرة عندما اقتنع من بيدهم الحل والعقد أن
الأمر سيفلت من أيديهم، فضحوا بآل المقداد، وسمحوا للدولة أن تتحرك، لكنهم قبل ذلك
ضحوا بالبلد ولا يزالون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق