ابن الحداد يناظر كبير
دعاة العبيديين ويسفه أقوالهم
قال أبو عثمان: ودخلت يوماً على
أبي العباس، فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل ممن ينتسب إلى العراقيين: أليس
العالم أعلم من المتعلم أبداً؟ والعراقي يقول له: نعم، وأهل المجلس لا ينطقون.
قال: فقلت له: بقي شيء، أو نتكلم؟
فتمادى، فقال له: أو ليس المتعلم
يحتاج إلى المعلم أبداً؟ قال: والعراقي يقول له: نعم.
قال: وفهمت مراده ومقصده ليؤكد
بذلك الطعن على أبي بكر رضي الله عنه في سؤاله علياً رضي الله عنه عن فرض الجدَّة.
قال: فبدرت وقلت له: إني أسمع كلاماً يجب لله علي فيه أن لا أسكت.
قال أبو العباس: وما ذلك؟
قلت له: المتعلم يكون أعلم من
المعلم أبداً ويكون أفضل منه وأفقه.
فقال: وما دليلك؟
قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيث يقول: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه".
وآخر: ما هو متعارف بين الخليقة،
أن المعلم يعلم الصبيان القرآن فلا يزال يعلمهم حتى يكبر الصبي. فيعطي الله عز وجل
للصبي من الفهم بعامّ القرآن وبخاصه وبظاهره وباطنه ما لا يقدر معلمه على علمه أبداً.
قال: فقال لي: فاذكر من عامّ
القرآن وخاصه شيئا؟
قال: فقلت له: قال الله عز وجل:
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) فاحتمل أن تكون هذه الآية أراد بها عامّاً فلما
قال الله عز وجل: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم
حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم). علمنا
بهذه الآية أن مراده في الآية الأولى خاص دون عام. أراد ولا تنكحوا المشركات غير
الكتابيات حتى يؤمن.
قال: ومن المحصنات؟
قلت: العفائف.
قال: المحصنات: المتزوجات.
قال: قلت: الإحصان في كلام العرب -
التي بلسانها نزل القرآن - :الإحراز، فكل من أحرز شيئاً فقد أحصنه، فالإيمان:
انحراز يحرز دم صاحبه وماله وسبيه، وهو يحصنه. والعتق: يحصن المملوك لأنه يحرزه من
أن يجري عليه ما يجري على المماليك. والتزويج: يحصن الفرج لأنه أحرزه من أن يكون
مباحا له ما كان له قبل التزويج. والعفاف: إحصان للفرج لأنها أحصنت فرجها بالعفاف.
قال: ما يكون الإحصان - عندي - إلا
التزويج.
قال: فقلت له: منزل القرآن يأبى ما
ذكرت. قال الله عز وجل: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) يريد أعفته.
قال: أعفته؟
قلت: نعم أعفته. وقال: (محصنات غير
مسافحات) عفائف غير زوان.
قال: فقال لي: فقد قال في الإماء:
(فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)، فكيف جعل
العذاب على المحصنات وهن عندك قد يكن عفائف؟
قال: قلت: سماهن بمتقدم إحصانهن
قبل زناهن، قال الله عز وجل في كتابه العزيز: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) وقد
انقطعت العصمة بالموت. يريد اللآئي كن أزواجكم وهذا كثير.
قال: فعارضني - معيناً له بعض من
سمى، فاجللت أنا كتابي عن ذكره - قال: فقلت له: أمسك عن هذا يا حدث - بصيحة - قال:
فلم يطق.
فقال لي أبو العباس: فعذاب
المحصنات: الرجم، فكيف يعقل نصف الرجم وقد يقتل بواحدة وربما لم يقتل بأكثر من
ذلك؟
قال: فقلت: هذا مما كنا فيه، أراد
خاصاً دون عام، أراد نصف ما عليهن من عذاب الجلد دون الرجم.
فقال لي: ومن يقول بالجلد مع
الرجم؟
قال: قلت: علي بن أبي طالب رضي
الله عنه جلد شراحة مئة ورجمها. وقال: جلدتك بكتاب الله ورجمتك بسنة رسول الله.
قال: ثم جرى ذكر شيء فقال لي: أنت
يا شيخ تلوذ.
قال: قلت: ليس أنا الذي ألوذ -
لأني أنا المجيب لك - وأنت الذي تلوذ لأني إذا أتيتك بالجواب ووقفتك منه على حد له
رجعت إلى مسألة أخرى غير ما سألتني عنه، فأنت الذي لذت.
قال: ثم صحت والله صيحة: ألا أحد
يكتب ما أقول ويقول غضباً لله تعالى. قال: فو الله لقد وقى الله تعالى شره.
قال: فكأنك تقول أنك أعلم الناس؟
قال: قلت: أما بديني فنعم.
قال: فما تحتاج فيه إلى زيادة؟
قلت: لا لأن ديني الذي أنا عليه هو
الحق الذي ليس الحق في سواه أبدا.
قال: فأنت أعلم من موسى بن عمران
عليه السلام إذ يقول: (هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا).
قال: فقلت له: قائل هذا طاعن على
نبوة موسى عليه السلام إذ يزعم أن الله تعالى اصطفاه برسالته وبكلامه ونبوته وهو
محتاج إلى أن يتعلم بعد ذلك شيئاً من دينه - معاذ الله - إنما كان العلم - الذي
كان عند الخضر- دنيوياً: سفينة خرقها لعلمه بالملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا،
وغلاماً قتله: علم كفره وإيمان أبويه، وجداراً أقامه: علماً بالكنز الذي تحته.
وذلك كله لا يزيد في دين موسى شيئاً.
قال: فأنا أسألك. قلت له: أورد
وعلي الإصدار بالحق بلا مثنوية. قال: فقال لي: ما تفسير الله؟ قال: فقلت له: ذو
الإلاهية. قال: وما الإلهية؟ قلت: الربوبية.
قال: وما الربوبية؟
قلت: الملك للأشياء كلها.
فقال لي: فقريش - في جاهليتها -
كانت تعرف الله.
فقلت له: لا، ماكانت تعرف الله.
قال: فقد حكى الله عنهم قولهم: (ما
نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
قال: قلت له: لما أشركوا معه غيره
فقالوا: ذو الشركاء والآلهة لم يعرفوه، وإنما يعرف الله من قال: إن الله ليس له
شريك وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قل يا أيها الكافرون
لا أعبد ما تعبدون) فلو كانوا يعبدون الله ما قال: (لا أعبد ما تعبدون).
قال: ثم قال لي: فمن الذين آمنوا؟
فقلت: نحن ومن ترى، وأوميت بيدي إلى أصحابنا وهم بين يديه.
قال: ومن الذين هادوا؟
قال: فقلت: أين المتكلم آنفاً بما
لا يدري. هذا من ذلك الذي أنكرت. سماهم وهم كفار بمتقدم كلمة كانت منهم تابوا بها
فكانوا بها مسلمين بقولهم: (إنا هدنا إليك).
قال: فمن النصارى؟
قال: قلت: الذين تكلموا في المسيح
عليه السلام.
قال: فمن الصابئين؟ فقلت: هم الذين
عبدوا الملائكة وزعموا أنهم بنات الله - تبارك الله تعالى.
قال أبو عثمان: وهذا قول أهل
العلم: فبدأت بجوابهم قبل أن أجيبه بكلام المتكلمين.
قال أبو عثمان: فقال لي: هم الذين
عبدوا الملائكة؟
قال: قلت: نعم وزعم هشام: أنها أصل
المنانية (المانوية).
قال: فمن الذين أشركوا؟
قال: فتبينت أنه إنما أراد
بإيمائه، وبما استدللت منه أنهم عنده مسلمون.
قال: فقلت: المشركون الذين كانوا
يعبدون الأصنام، الذين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يقرأ عليهم آيات من سورة براءة.
قال: فقريش ما كانت تعبد؟
قلت له: الأصنام.
فقال لي: وما الأصنام؟
قلت له: الحجارة.
قال: والحجارة كانت تعبد ؟ - على
النكير منه أن تكون الحجارة هي الأصنام - .
قال: فقلت له: نعم. والعزى كانت
تعبد وهي شجرة، والشعرى كانت تعبد وهي نجم.
قال: فقال لي: الله يقول: (أمن لا
يهدي إلا أن يهدى) ، فكيف تقول أنها الحجارة والحجارة لا تهتدي إذا هديت لأنها
ليست من ذوات العقل.
قال: فقلت للمعارض: أمسك. مالك
ولذا؟
ثم قلت: قد أخبرنا الله عز وجل: أن
الجلود تنطق في الآخرة وليست من ذوات النطق.
فقال: نسب إليها النطق على سبيل
المجاز، والنطق للأفواه.
فقلت له: منزل القرآن يأبى ما
ذكرت، فقلت: قال الله عز وجل: (اليوم ختم الله على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد
أرجلهم بما كانوا يكسبون).
قال: - وأشرت بإصبعي السبابة إلى
فمي - فقلت: ختم الله على أفواههم: ثم بين بقوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم
علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء). وما الفرق بين جسمك وأجسامهم وبين
الحجارة إلا أنه عقلنا الله فعقلنا ولو لم يعقلنا لم نعقل، وكذلك الحجارة إذا شاء
أن يعقلها عقلت.
هذا الجبل لما عقله الله عقل جلال
تجليه: اندك. قال تبارك وتعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً).
وصعدت روح أبي عثمان سعيد بن
الحداد إلى الرفيق الأعلى في شهر رجب الخير من عام (302هـ/914م) رحمه الله. وعمره
خمس وثمانين سنة، فقد كانت ولادته سنة (217هـ/829م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق