ما حدث في
مصر يوم أمس أمر جلل له ما بعده من تداعيات لا يعلم إلا الله مداها وأين ستذهب
بمصر الكنانة التي كانت على الدوام بيضة قبان العرب ومركز ثقلهم واستشراف مستقبلهم
ومناط عزهم وسؤددهم، فكما أن دمشق قلب العروبة النابض فإن القاهرة بوصلة العرب
التي تقود سفينتها وكبدها الذي يضخ الحياة فيها.
سأتجرد عن
عواطفي وأنا أكتب عما حدث يوم أمس في القاهرة وأقولها بالفم الملآن رغم ما سيسبب
لي من آلام وأحزان وأوجاع، ولكن لابد من قولة الحق فلا خير في هذه الأمة إن لم
يوجد فيها من يقولها: (الإخوان أسكرتهم نشوة صناديق الاقتراع) وأرجو أن يكون ما
حدث في القاهرة درساً لهذه الحركة العظيمة الذي يشرفني أن أكون أحد أعضائها.
لقد فرحت
كما فرح الملايين من أعضاء هذه الجماعة وأنصارهم في طول بلاد العرب وعرضها وقد
اعتلى سدة الحكم في مصر (أم الدنيا) رجل من خيار الجماعة وأطهرها عبر صناديق
الاقتراع الحر والنزيه والشفاف، وقال شعب الكنانة كلمته وأنصف هذه الجماعة التي
كانت لعقود طويلة نزيلة المقابر والسجون والمعتقلات والمنافي والملاحقة وظلم ذوي
القربى.
وكان لابد
لهذه الجماعة وعقلائها أن تقرأ جيداً النسبة التي اختارت أحد أعضائها ليقود
السفينة في مصر في بحر لجي متلاطم الأمواج وسط عواصف برقية ورعدية تنذر في غرق هذه
السفينة في أية لحظة وتسقط إلى قاع البحر.
فبعد سنين
طويلة عجاف عاش فيها شعب مصر مغيباً وقد أتعبته الحياة التي خلت من كل حقوق
الإنسان وأبسطها، فلا حرية ولا كرامة ولا رغيف عيش، ومن وسط هذا الركام الذي ظن
الناس .. كل الناس.. أن مصر سوف تخلد في دياجيره وظلمته وكابوسه.. تبسم القدر في
لحظة فارقة لهذا الشعب العظيم الذي بنى أعظم حضارة على ضفاف النيل قبل خمسة آلاف
سنة، ليجد نفسه وعلى غير موعد بأنه تمرد وخرج من القمقم الذي حُبس فيه مكبلاً بزرد
الحديد لا يستطيع التحرك إلا بما يكفل له بقية رمق من حياة.
استفاق
شعب مصر ليجد نفسه حراً طليقاً منفلتاً بلا قيود ولا ضوابط تحول بينه وبين ما يريد
أو ما يقول ويعبر عنه في غياب عقلاء الأمة وحكمائها الذين صُدموا بكل ما حدث وكان
مفاجئاً لهم دون أن يعدوا لمثل هذا اليوم عدته، وقد اهتبل نفر من الطامحين إلى
السلطة هذا الانفلات وهذا التسيب وراحوا يتصدرون المجالس حالمين بصولجان الحكم
الذي ظن كل واحد منهم أنه الأحق والأجدر الإمساك به والجلوس على كرسيه، ومن خلفهم
بقايا فلول النظام السابق التي لم تستسلم لهذا الواقع الجديد الذي سلبها كل
المكاسب والامتيازات التي حققتها لعقود طويلة، ويريد حرمانها من التمتع بلذتها.
في هذه
الأجواء المكفهرة كان قدر جماعة الإخوان المسلمين أن يختار شعب مصر واحداً منهم
ليكون رئيساً لمصر، وكان هذا الاختيار ذو حدين أراد به شعب مصر تسليم هذه الأمانة
لمن يثق بدينه ونظافة يده لينتقل به إلى الحياة الأفضل التي يحلم بها، فاختار وظن
أنه قد أحسن الاختيار، إلا أن الجماعة كانت ضحية الحد الثاني من تلك السكين لأن
نشوة الفوز أسكرتها فلم تقرأ جيداً طبيعة فوزها بهذا المنصب والنسبة التي خولتها
لهذا الفوز 51,8% وهذه النسبة قريبة جداً مما حققه خصمها ابن النظام السابق، وكان
في ذلك الدليل القوي على أن مصر لم تنعتق من قمقمها بشكل كامل، وكان على الجماعة
أخذ ذلك بالاعتبار والتعامل بمفرداته بفطنة وحذر وهذا ما لم يحدث، فقد راحت تدير
البلاد بمفردها مبعدة عن قصد أو غير قصد عنصر الشباب الذي كان الذراع القوية التي
كان له الفضل في إنجاح الثورة وتجسيد حقيقتها، وكان من الممكن أن يكون السند لها
عند مدلهمات الأمور ومخاطرها، وأدارت ظهرها لكل الأطياف السياسية الأخرى سواء منها
من تتفق معه إيديولوجياً أو تختلف معه، وكانت دائماً تستيقظ من حلمها الوردي
(صناديق الاقتراع) بعد فوات الأوان واتساع الخرق، حتى باتت وحيدة في الميدان تقارع
الجميع وقد خسرت جل الأصدقاء ولم تكسب أياً من الخصوم والأعداء، وراح من حولها
يقفز من السفينة التي راحت تغرق مسرعة والجماعة غير آبهة بكل ما يجري، فنشوة
الانتصار عبر صناديق الاقتراع لازمتها حتى الثمالة دون أن تعي ما يحاك لها، أو
تحاول ترميم ما يمكن ترميمه من خروق في هذه السفينة لتتسع، حتى اتسع الخرق على
الراقع وبات من المستحيل الحيلولة دون غرق السفينة.
وكان الكل
يتألم وهو يشاهد رأي العين السفينة وهي تغرق، وكانت الجماعة أمام كل ذلك مغمضة
عينيها عن كل ما يجري حولها، تعيش في غيبوبة
وتسكن في عالم آخر.. تعيش أحلام اليقظة.. منتشية حتى الثمالة بحلم لازمها
منذ الساعات الأولى لفوزها عبر صناديق الاقتراع حتى غرقت السفينة وتبخر الحلم
اللذيذ الذي عاشته لنحو سنة، والذي أعتقد أنه لن يتكرر ثانية في مصر، على الأقل
بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين الذين خسروا في ظل صناديق الاقتراع ما لم يخسروا
في أيام عقود الديكتاتوريات التي تعاقبت على مصر لأكثر من ستين عاماً، وأرجو أن
أكون مخطئاً!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق