ما يحصل في مصر اليوم كارثة بكل المقاييس،
وهو أسوأ من أسوأ حالة عشناها في نصف القرن الماضي، لأنه انقلابٌ على إرادة الشعب ومصادرةٌ
لحريته ووأدٌ صريح لاستقلاله الوَليد. لقد حُرمت الأمة المسلمة حريتَها دهراً طويلاً
وتسلّط عليها حكم جبريّ وسلطان أجنبي، فلما حطم شعب مصر الأغلال وأسقط الطاغية أبى
عليه العالَم إلا أن يعيده إلى القفص الذي كان فيه، فهو اليوم كأب وأم صبرا على انقطاع
الولد حتى بلغا المشيب، ثم رُزقا ولداً بعد انتظار عمر طويل، فلم يكد يبلغ من العمر
عاماً حتى عدا عليه العادُون فقتلوه.
من المَلوم؟
هل نلوم أعداء الأمة الذين يغيظهم
ويقلقهم أن يعيش الشعب المصري حراً كريماً مستقل الإرادة؟ هل نلوم خصوم الإسلام الذين
يكرهونه ويكرهون أهله ولا يطيب لهم عيش إلا بهدمه وإقصائه عن الحياة؟ لماذا نلوم هؤلاء
وأولئك؟ إنما هم أوفياء لأقوامهم ومبادئهم ولا يُتوقَّع منهم غير ذلك، ولو أنهم تركونا
ننعم بحريتنا واستقلالنا وإسلامنا لكانوا خونة لمصالحهم ومبادئهم، ولو أننا ظننا أنهم
سيتركوننا وشأنَنا فإنّا حالِمون.
لا، أنا لا ألوم أيّاً من ذَينك الفريقين،
بل ألوم ثلاثة فُرَقاء منا، وسوف أصرّح بوصفهم ولا أبالي بالسهام التي أكاد أراها بعين
الخيال تخترق صدري، فإن الشاهد مؤتمَن، وإن كلمة الحق ينبغي أن تُقال، بل إنها فريضة
لا رخصةَ فيها حينما تلتبس الحقائق والمفاهيم.
* * *
الفريق الأول هم جمهور عريض من المصريين
الذين وقعوا في وهم خطير كبير، فظنوا أن الاختيار المطلوب منهم هو اختيارٌ بين شخص
وشخص أو بين جماعة وجماعة أو بين حزب وحزب، فلمّا كرهوا ذلك الشخص وحزبه وجماعته تركوه
والتزموا الحياد؛ لم يدركوا أن المعركة هي -على التحقيق- بين الحق والباطل، بين الحرية
والاستعباد، بين الكرامة والاستبداد.
إن الحياد جائز في المعارك السياسية
والعسكرية، ولكنه في المعارك الأخلاقية حرام. إن الحياد يغدو جريمة عندما يكون الصراعُ
صراعَ قيم ومبادئ، لأن مَن لم يكن مع الخير فهو مع الشر، من لم يكن مع الحق فهو مع
الباطل؛ لا حلولَ وسطى في المبادئ والأخلاق.
أؤكد: المبادئ وليس الأشخاص، فإن الانتصار
هنا ليس مطلوباً لرئيس منتخَب لأنه فلان أو فلان أو لأنه ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك،
بل لأنه منتخَب وحسب، لأنه اختيار الأغلبية وحسب. والأغلبية لا تعني الجميع، يكفي أن
تكون أكثرَ من النصف ولو ببعض الناس، هذا هو قانون الأغلبية؛ إنه قانون احترام إرادة
الأمة، وهو القانون الذي جعل نصفَ شعوب الأرض شعوباً متقدمة ونصفَها الآخر شعوباً متخلّفة...
إنه الفرق بين الحكم الجبري والحكم الشوري، إنه الخيط الرفيع بين الحرية والعبودية.
الفريق الثاني هم علماء مصر ودعاتها
ومفكروها الكبار، الذين أدركوا الخطر ولم يُعدّوا الناس لمواجهته ورَدّه، أو الذين
لم يدركوه رغم كل الإرهاصات والمؤشرات. هؤلاء مسؤوليتهم مضاعفة لأنهم أصحاب قدرة على
التأثير والتغيير، والله يحاسب كل امرئ بما آتاه من قدرات ومدارك. كانت مسؤوليتهم كبيرة
وما تزال مسؤوليتهم كبيرة، ولئن سألهم الله عمّا مضى فإنه سيسألهم عمّا هو آت، فليقفوا
-منذ اليوم- الموقف الحق أو ليعدّوا الجواب ليوم يقفون فيه بين يدي الله.
الفريق الثالث هم بعض الإسلاميين الذين
حاصروا التجربة من أيامها الأولى وحاربوها لأنها -بزعمهم- ممارسة شركية، الذين اعتبروا
أن الشعب أقل قيمة من أن يكون له رأي في حكم نفسه، الذين غرقوا في وهم غريب يقول إن
اختيار الناس لمصيرهم وأنّ حكمَهم أنفسَهم بأنفسهم عدوان على الله! فما يزالون يحاربون
كل محاولة تبذلها الأمة لكسر أغلال الاستبداد والحكم الفردي الجبري عن طريق أسلوب التداول
السلمي والاختيار الحر الذي تختار فيه الأمة حكامها كما تختار ممثّليها في البرلمان.
لم يدركوا قط أن الشعب يريد فقط أن
يسترجع حقه من السلاطين المستبدين الذين حكموه ألف عام، يريد أن تكون إرادته فوق إرادة
السلطان لا فوق إرادة الله، يريد فقط أن يصحح علاقته بحكّامه: من علاقة يملك فيها الحاكمُ
البلدَ وأهلَ البلد مُلكَ اليمين إلى علاقة يوظف فيها الشعبُ رجلاً يحكمه بعقد واضح
وسلطات محدودة، ويبقى كلاهما -الشعب والحكام- تحت إرادة الله رب العالمين... هذا هو
جوهر التغيير الذي نريده والذي يسميه بعض الإسلاميين "ديمقراطية كافرة"،
أما استبداد الفرد وتحكم حفنة قليلة بمصير الملايين فإنه عندهم حكم الإسلام!
هؤلاء كانوا أشد على الحكم الجديد
في مصر من خصومه أجمعين، لم يرحموه ولم يُمهلوه، أرادوا منه -وهو المقيَّد بأثقل القيود
والسالك عبر مسالك الألغام- أن يصنع دولة الخلافة في شهر ونبينا الكريم عليه صلاة الله
وسلامه بناها في عشر سنين، فأوقدوا ناراً ساهمت في حرق الحكم الجديد وحرقَت معه الاستقلال
الوليد.
* * *
لكنْ هَوناً؛ لا يتعجّلْ الفرحون الفرح
ولا يتعجل الحزانَى الحزَن، فإن المعركة لم تنتهِ بعد، في الحقيقة فإنها بدأت للتوّ.
لقد ظهر أن الثورة المصرية الأولى كانت فاشلة لأنها لم تقطع سوى رأس واحد من رؤوس الحية،
وعندما تكون الحيّة ذات رؤوس فإنها لا تموت إلا بقطعهنّ جميعاً، فإما أن تستمر الثورة
حتى يسقط النظام القديم كله بكل أركانه ومؤسساته، أو تعود مصر إلى أسوأ مما كانت عليه
قبل الثورة لا قدّر الله.
يا أحرار مصر: اليومَ يومٌ من أيام
التاريخ؛ إما أن يكون بداية لعصر الحرية الجديد أو انتكاسة إلى عصر الاستبداد القديم.
هذه لحظة من لحظات العمر فلا تضيعوها، وإن العمل فيها فريضة عين على كل قادر. كل من
يستطيع النزول إلى الشوارع انتصاراً للشرعية ولإرادة الأمة ثم لم يفعل فهو آثم، كل
من كان يستطيع أن يدافع عن الحق بفعل أو بموقف أو بكلمة ثم لم يفعل فهو آثم. ولا تقولوا:
عدونا قوي ونحن مستضعَفون، فإن الإرادة الصادقة تصنع الأعاجيب، وإن مِيتةَ الأحرار
خيرٌ من حياة العبيد، وما شعب سوريا عنكم ببعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق