في
تسعينيات القرن الماضي ، نعم في تسعينياته سقط كل شيء في الوحل، وتفسخ المجتمع
السوري ؛ حيث أصبح الحديث عن القيم ضربا من الترف، الذي يمارسه الفقراء، وهم يتحلقون حول السراج ؛ في ليالي تقنين حافظ الأسد .
في هذا
العقد الأخير من القرن العشرين، صارت سوريا الأسد
قولا وفعلا، حيث تغير اسم الاستفتاء على ولاية الرئيس؛ ليصبح بيعة ، وبذلك
تحول الحكم البعثي العلماني اليساري الاشتراكي إلى حكم ثيوقراطي؛ مدعوم من السماء،
كما في القرون الوسطى .
في هذا
العقد الأخير من القرن العشرين أيضا، كنت أزحف نحو شبابي الأول، يلبسني الكثير من
التفاؤل بمستقبل ما ، ولكن الانهيار كان يتشظى في المكان ، كنا في هذه الفترة
طلابا في جامعة دمشق ، تقف في وجهنا أزمات جمة ؛ منها تأمين الثياب ، و أجرة
السرفيس وغير ذلك من مصاريف لشاب فتح صدره للحياة في شبابه الأول .
كانت النجاة الوحيدة لمثل أترابي هي البحث عن عمل ؛
أي عمل في عطلة الصيف ، كي يحصِّل شيئا من المال ،يسد به بعض هذه الفجوات .
كنت
جالسا في ذلك القيظ ،الذي يعاركني على برندة بيتنا في عرطوز أسرِّح نظري في بساتين
الزيتون ، وأعاني من بطالة تشنق الوقت، الذي يمضي بطيئا ، فأيام عطلة الصيف تتآكل
تدريجيا ، والجامعة على الأبواب ولم أسطع أن أجد أي عمل، يقلص الفارق بين الفقر
والعوز... في هذه الهنيهات، سمعت صوت ( أبو حسين) صديقي الخليل ينادي بعدة طرق :
ولووووو ، يوووووو ، وينووووو وفي كل هذه التشكيلات الصوتية ، أحسست فرحا وتفاؤلا
يتسرب منها ، مددت رأسي وإذ بأبي حسين ،يبتسم من تحت شماغ لفه على رأسه ، ويرتدي
ثياب العمل ، ويظهر من هيئته أن قادم من ورشة وقد انتهى من حمل 100 بلوكة ، أو سيارة رمل أبيض أو طن اسمنت . صعد
أبو حسين ، سلم ، جلس ، صببت له شايا ، عدل الشماغ على رأسه ، وبدا منتشيا ، سألني: ( شو عم تشتغل ها لأيام ) طبعا كان
الجواب واضحا ، وقد أراد أبو حسين بهذا السؤال التمهيد لما هو أعظم ( شو رايك تشتغل معي) هنا قفز بريق الفرحة في عيني ، فوافقت
أولا، ثم سألته ماذا سنشتغل ؟؟؟ فقال لي في معمل بلوك ، وأردف سريعا على
المكبس طبعا مو تحميل ، هنا تدلت شفتي السفلى ، حتى وصلت إلى ركبتي وقد التهمني
الاستغراب ، مكبس بلوك ؟؟!!!، وكيف يكون
ذلك يا صاح؟؟ رشف أبو حسين شيئا من الشاي ، وعدل الشماغ مرة أخرى ، وقال لي لا:
عليك، أنا تعلمت كيف تتم عملية تشغيل مكبس البلوك ،وصار باستطاعتي التعامل مع هذه
الآلة باحتراف ، قلت له ومن علمك هذا؟!! قال لي: نصر .. قلت : ومن نصر هذا ؟؟ قال
شاب من المنطقة الشرقية، يعمل على أحد المكابس في ضاحية عرطوز ، بدأت أفحص وجه أبي
حسين من الحاجبين للجبهة للأنف، حتى أتبين صدق دعواه ، ولكنه بدا واثقا من نفسه متماسكا
، ويبدو أنه أحس بشكوكي حول الموضوع، وأن
هيئته و شماغه والغبار ،الذي على وجهه غير كاف لإقناعي، فقال لي بجملة خاطفة : (الحمد لله ناخذ على البلوكة ليرتين ، وكل يوم نكبس مئتين ،
يعني أربعة مئة ليرة ، نعمة كريم ، كانت
هذه الجملة الأخيرة هي من حسم تصديقي للقصة، وأنها ليست في سياق المزاح ، فطلبت منه إعادتها ؛فأعادها بالحرف الواحد وباستمتاع،
فكانت تسيل من فمه ،كما تسيح الجبنة في رغيف الصمون.
أعدت الجملة مرة أخرى، بعد أن فككتها أربع مئة
ليرة، ونحن اثنان ، يعني نصيب الفرد مئتي ليرة ، كان الرقم مرعبا في تلك الأيام
لفتى مازال في الجامعة، يبحث عن أي شيء في عطلة القيظ المر.
قُضي الأمر بالنسبة لي ،سأوافق حتى لو وضعوني في
المكبس، وصنعوني بلوكة ، ولكن أمام هذا الإغراء الكبير تعطلت تلافيف دماغي، وفقدت
القدرة على المحاكمة ، لكن رغم ذلك يبدو شيئا من غريزة البقاء حركني للتساؤل
التالي : طيب يا أبو حسين أنا لا أحسن العمل على هذا المكبس .. بلاها خيوووو الله
يرزقنا ، أحس أبو حسين أنني سأفلت من يديه؛ فعاد لتطويقي من جديد، لا تخف أنت ستشتغل على الكريك، وتخلط الرمل والبحص والاسمنت، أما عملية التصنيع، وتشغيل المكبس فهي من اختصاصي ،لا عليك ، أعدت النظر مرة أخرى
في عيني أبي حسين ، لقد كان واثقا ،وكأنه هو من اخترع مكبس البلوك .. هنا حسمت
أمري واتفقنا ..
صباح اليوم التالي كنت أحث الخطا مع أبي حسين
نلف الشماغات على رؤوسنا، متجهين إلى مشروع ضاحية عرطوز، الذي دمرته مدافع بشار
الأسد أثناء الثورة ، وصلنا إلى المشروع، قصدنا المشرف على مكابس البوك؛ فقد كانت
كثيرة ، صافحه أبو حسين بثقة عالية وتعانقا ، عرفه عليَّ مدعيا أنني معلم بالكبس؟؟!!!
حاولت تمثيل الدور بنظرات عيوني وشماغي
المتهدل ، ولا أدري كم كان مقتنعا بي ، ولكنه
لم يعلق؛ لأنني أعمل مع المعلم أبو حسين ..
كنت
متحمسا جدا للعمل ؛ مئتا ليرة تلوحان أمام عيني وزيادة الأجرة مرهونة بالاجتهاد؛ فبإمكاننا
تحصيل المزيد .. هنــــا قطع أبو حسن هذه السلسة من الحلم قائلا :( خيو شو رايك اليوم نكبس ستين بلوكة بس ؟؟) لأننا في أول يوم للعمل ، وحتى لا تتشنج عضلاتك، وخصوصا أن العمل مجهد ، بصراحة كان كلام أبو
حسين في صميم الاختصاص ، ولم أره تكنوقراطا ، كما رأيته في هذين اليوم ،
يناقش تفاصيل المسألة بشكل علمي ومنهجي ، تدل
على خبرة عميقة ، وافقت سريعا فقد سلمت نفسي لأبي حسين .
جلس أبو
حسين على بلوكة ، وأشعل سيجارة، وبدأ يمارس علي دور المعلم التكنوقراط ،بقوله :
شوف ، جيب كيس اسمنت ، اقلب الرمل على البحص ، واخلطهما مع بعضها ... ، سريعا قمت بتنفيذ الأوامر يجب على الإنسان أن يؤمن
بالتكنوقراط ،هؤلاء الخبراء ، الذين يقصرون المسافات، ويضعون الأشياء في نصابها
المعرفي الحقيقي .. سريعا أيضا لبيت كل ما طلب مني .. كيف لا ومن يطلبه تكنوقراط،
يفهم بهذا الاختصاص ؛من الخلطة حتى كبس البلوكة ، في هذه الأثناء مر المشرف العام على المكابس ،
وقال لي : هذه الخلطة ماؤها زائد حبذا لو عدلتها ، سريعا بدأت هذا تكنوقراط آخر،
أبدى ملاحظة تكنوقراطية ، يجب تنفيذها شيء
من الرمل .. شيء من البحص، قليلا من
الاسمنت ..والمشرف ما زال واقفا؛ فقال لي لقد جففتها ، ضع قليلا من الماء أضفت
الماء ، فقال لي لقد أكثرت الماء جففها ، أضفت رملا بحصا اسمنا، وهكذا دواليك، حتى
أصبحت الخلطة الصغيرة؛ التي اتفقت أنا وأبو حسين عليها؛ بحجم كبير، أثار الرعب في
قلبي، لكن أبا حسين ما زال متماسكا ، في هذه اللحظات نادى أحد العمال المشرف؛
فتركنا وانصرف .. قفز أبو حسين من مكانه ،وشغل آلة الكبس ، وبدا منتشيا وصوت
هديرها يعلو ، وينظر إلي بنظرات ملؤها العزة والكبرياء، وكنت معجبا كثيرا بوقفته
تلك، وخصوصا أنها وقفة تكنوقراط .
بدأ
العمل وضعنا المادة المخلوطة في المكبس، وقد وقف أبو حسين وقفة الواثق تعامل مع
الآلة بحرفية تامة، رفع القالب ؛ليأخذ البلوكة لمكانها.... فجأة تفسخت البلوكة ، وهي
في القالب ، وتحولت إلى رمل ، نظر إلي حتى لا تتزعزع ثقتي به قائلا : عادي أول
وحدة دايما ما تزبط .. وضع الثانية في المكبس ،قام بالحركات نفسها ضغط بقوة رفع
البلوكة تفسخت هي أيضا ، الثالثة الرابعة
، الخامسة .. بدأ الهلع يدب في أطرافي، وهززت رأسي ....شو أبو حسين .. شو القصة
....قال لي : خيو الخلطة مو مزبوطة ... نصر علمني على المكبس ، بس نسيت أن أقول له
يعلمني على الخلطة ..
عندما
سمعت هذه الكلمات سقطت كل أحلامي ، كما كانت البلوكة تسقط من القالب ، ولكن القضية
ليست هنا ... لقد عبثنا بهذه المواد الأولية ،وعلينا أن ندفع ثمن ما أفسدنا، جلس
أبو حسين ، وجلست أمامه ، أخرج سيكارة حمرا طويلة ، وقال لي شوف :هاي المواد يلي خربناها بشي 2000
ليرة ، لازم ندفها ، أو .... قلت له: أو
شو قال : أو نهرب ... سريعا جدا لأني مؤمن بأنه تكنوقراط قلت له : نهرب أحسن :
قال لي : سوف أعد من واحد إلى ثلاثة أنا أهرب باتجاه البساتين، وأنت باتجاه الجبل
ـ وفعلا كان ذلك ،وهربنا ولم يكن صديقي أبو حسين تكنوقراطا إلا في مسألة الهروب؛
فقد اختار منطقة البساتين، حيث سيجري إلى أسفل واختار لي منطقة الجبل ، حيث سأركض
إلى أعلى ......
لقد كنت
أنا وأبو حسين في منتصف التسعينات نبحث عن عمل
في بلد ليس فيها عمل لأهل الاختصاص والتكنوقراط فما بالك بفتيان أغرار ،لا يملكون
أي خبرات ،يريدون العمل في أي شيء تحت وطأة الحاجة ، ومع بداية الثورة كانت
المعارضة السورية مثلنا بحاجة أن تعمل معارضة ، فالتحقت سريعا بالثورة ، ينقصها كل
شيء ، فليس عندها خبراء تكنوقراط في الاقتصاد ، أو السياسة ، أو التحليل
الاستراتيجي ، أو التحليل العسكري ، أو في الإعلام كانت تمتلك شيئا واحدا هو شهوة الانقضاض على
السلطة ، دون أي مقومات تمتلكها ، لقد عاشرت الكثيرين منهم ، فهم لا يمتلكون أي رؤيا واضحة لمستقبل البلاد ،
يعارضون دون وجود أي مشروع عندهم ، ويتقدمون الصفوف الأولى ببدلاتهم الأنيقة وابتساماتهم
الهوليودية من أصحاب اليمين ، وأصحاب الابتسامات التي الصفراء التي أكلتها البيرة
والدخان من أصحاب اليسا ، بل إن الكثير منهم لا يعرف الحد الأدنى من المعارف بوصفه مواطنا سوريا ، فلا يعرفون المدن والقرى السورية
، ولا يعرفون طبيعة سكانها ، ولا طبيعة الاقتصاد الذي يمارسه هؤلاء ، بل إنهم لا يعرفون
شيئا عن تاريخ سوريا الحديث على الأقل قبل مجيء حزب البعث ، والأدهى أنهم لا
يعرفون معنى كلمة فقير ؛فقد عاشوا سنين طويلة في دول أوروبا وأمريكا والخليج ،يزورون
مطاعم الكنتاكي ، في وقت كنت أنا وصديقي أبو حسين على استعداد أن ندعي أننا نستطيع
تشغيل مفاعل نووي، حتى نجد فرصة عمل في القيظ اللئيم ، لنستطيع شراء ثوب للشتاء أو كتاب للدراسة أو ديوان شعر
لحبيبة افتراضية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق