الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2013-04-19


عقدة المعري – بقلم: محمد حايك
أتلانتا، جيورجيا
15-نيسان-2013
إن عدم انكباب الأمة على هدف واحد لتصحيح الواقع والتخطيط لمستقبل زاهر فيه يعبد الله وحده لا شريك له، جعل المسلمون ينغمسون بترهات الماضي بالرجوع إلى أحداث عهد الصحابة الأوائل، والنقاش مازال حاميا حتى هذه اللحظة لمحاكمة صحابة عفا عليهم الزمن، ومازالت تسطر سيرتهم يد الفاتنين.  ما يهمنا من كان على حق أو من كان على باطل، فهم بشر مثلهم مثل غيرهم أخطأوا وأصابوا في زمانهم وحسابهم عند ربهم.  وما يفيد سب ولعن الأموات؟ وهل سب ولعن أموات حضنتهم القبور منذ أكثر من ألف سنة سيغير الماضي ويشيد الحاضر أو سينير المستقبل؟ ما لنا ومال ما كان يحيك في نفوسهم؟ أليس لهم رب عليم يما في الصدور سيحاسبهم؟  فنحن دعاة ولسنا قضاة.  فكل ما يهمنا هو تجنب أخطائهم التي وقعوا فيها.  لم يخلقنا الله تعالى من أجل أن نعيش في الماضي أو نبني حاضرنا على أخطاء بشر حصلت منذ ألاف السنين فنلوثه بالدماء والحقد والظلم، ولكن خلقنا من أجل حاضرٍ نيرٍ ومستقبلٍ زاهرٍ نوحده تعالى ونعبده فيه.  فلكل زمان رجال، وكل زمان يتحمل أخطاء رجاله. 


من شب على الحقد والكره والانتقام ولم يستطع الانتقام من الأموات، سيبحث عن أحياء لينتقم منهم.  إنه مرض لقنه إياه أبوه وأمه ومجتمعه منذ نعومة أظفاره.  إنه مرض الحقد والكره وحب الدماء.  فهل سيخرج علينا قوم يوماً ما يحاسبون بعضهم على قتل قابيل لهابيل؟ والله تعالى يقول (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) الأنعام:164.  فالانغماس بترهات الماضي يحرف العقل وينهك الجهد عن التخطيط للمستقبل. 

مالنا ومال أخطاء التاريخ، فأخطاء التاريخ تدرس من أجل تجنبها، وليس من أجل الانتقام من الحاضرين، إنه الجنون بعينه. 

الانغماس في أخطاء التاريخ من أجل المحاسبة والانتقام يؤدي إلى الكراهية والتحطيم والاستغلال من قبل الأخرين، لأنها نقطة ضعف فيمن تحيك بنفسه.  فلا يمكن أن تفكر في المستقبل إذا كنت تفكر في أخطاء ماضٍ يؤرقك وتجعله نصب عينيك كيفما استدرت.  فالتفكير في السلبيات يتعب العقل ويبعده عن الإيجابيات.  الأمة التي تجهد نفسها في حساب رجال الماضي لن يكون لها ذكر في الحاضر أو المستقبل.  فالماضي لن يتغير، والمستقبل يتشكل ويناسب لمن يخطط ويعمل له، فليكن التفكير في إرضاء الله فلقد أمر بالإحسان إلى الناس (وَٱعْتَصِمُوا بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) آل عمران:103.  قال إسحق نيوتن "إن الناس تبني حيطان كثيرة ولا تبني جسور كافية".

الناس صنفان: موتى في حياتهم    وآخرون ببطن الأرض أحياءُ
إنني مازالت أذكر منظر الطفل الذي لم يتجاوز السنتين من عمره وأمه تجرحه بسكين في راسه لتسيل دمائه من أجل أن تغرز فيه حب الانتقام والحقد.  مازلت أذكر ضربات الرجال بالحديد والسياط على رؤوسهم وأجسادهم العارية حتى تسيل الدماء، إنه ظلم الأجساد بسبب عقول فسدت باعتقادات بالية، وفي الحديث: {إن لجسدك عليك حقا}.  هل هذا هو الإسلام الذي يدعون إليه الناس؟ هل يعبدون الله بإسالة الدماء من أجسادهم أم هل يعبدون صنم الحقد والكره والانتقام؟ والقرآن يقول: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا، إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ) البقرة:195.  إن رأى هذا المشهد جاهل بالقرآن سيبتعد عن الإسلام.  أليس هذا الفعل قد يؤدي إلى الانتحار؟ إن لم تنتحر أجسادهم فقد انتحر عندهم العقل وروح الإسلام.  أين هم علماؤهم أليسوا هم جزء من هذا المشهد العقيم؟ أليس فيهم رجل رشيد؟  (فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا ٱللَّهَ وَرَسُولَهۥ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) الأنفال:1.
    
وبعض الداء ملتمس شفاه  وداء الحمق ليس له شفاءُ

يحكى أن رجلاً عجوزاً من الهنود الحمر من قبلية الشيروكي من المواطنين الأصلين في أمريكا كان يعلم حفيده عن نكبات الحياة، فقال له ذات يوم: «هناك صراع يجري في داخلي».  ثم أكمل حديثه فقال: «إنه صراع مرير بين ذئبين.  أحدهما سيء فيه صفات الأذى والغضب والغيظ والحسد والكره والتكبر وحب النفس والكذب والجشع والغدر واللؤم.  والذئب الثاني جيد طيب السريرة، فيه صفاة السعادة والأمان والحب والشفقة والعطف والحنان والصدق والتسامح والإحسان والسخاء والوفاء.  إن هذا الصراع المرير يجري في داخلك وفي داخل كل إنسان».
فكر الحفيد بكلام جده لدقيقة ثم سأله: «أي الذئبين سينتصر؟».
فأجابه العجوز: «الذئب الذي تغذيه».
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴿10﴾) سورة الشمس.

وحسب أقوال العالم الطبيعي كربوتيكن Kropotkin إن أنواع الحيوانات الأكثر تعاونا وأقل منافسةً مع بعضها البعض، هي وبدون شك أكثر نجاحا من غيرها، وبالمقابل فإن الأنواع التي لا تتآلف مع بعضها البعض محكوم عليها بالاضمحلال (وَلَا تَنَـٰزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46.

إن ما رايته من بعض سلوك الأفراد أو الأسر أو خلايا المجتمع أو المجتمع بذاته أو الدول أنها تحاول أن تجد عدواً مشتركا لتتوحد فيم بينها.  وإن لم تجد هدفاً خارجياً لتجعله عدواً فستبحث عن هدفٍ داخلي لتنصبه عدوا.  فانظروا إلى الحروب الباردة التي نسمع بها.  إنني لا أبالغ إذا قلت أن هناك أسرا تنصب أعينها على أحد أفردها تجتمع ضده لتوحد صفها.  فالعدو المشترك قد يوحد الشمل لفترة من الزمن.

إن صمت الأموات قد يزعج الأغبياء من الأحياء.  فالأمة الإسلامية بين قطبين رئيسيين، إما لاعنا شاتما للأموات وإما عاشقاً مبجلاً مقدسا لهم.  فالتاريخ مسلسل متصل من المسرحيات النائمة، لم تكتمل فصولها بعد، ومن الجنون أن نوقظ منها ما يؤلم الواقع وقد يسفك الدماء.  إن التاريخ كُتب وحُور بما يناسب المصلحة الشخصية لكاتبه، فحادثة واحدة حصلت في التاريخ قد يكون لها روايات مختلفة، فقليل كتب التاريخ من أجل التاريخ، والأعمى هو الذي ينحرف في مذلات كتب التاريخ.  إن أكبر خطأ للصحابة أنهم لم يستطيعوا حقن دمائهم، ولم يتصرفوا بحكمة في وقت تحتاج فيه الحكمة، فالحكيم منهم من غادرهم وقال مالي ومال الفتنة، أفلا نتعلم من أخطائهم ونحقن الدماء.  إنه العشق الأعمى لأقوال الناطق باسم الدين بدون تفكير.

قال بشار بن برد:
تعشقتها شمطاء شاب وليدها             وللناس فيما يعشقون مذاهبُ
وقول لمرعي بن يوسف الكرمي:
أقـلـد فـتـواه وأعـشـق قـولـه           وللناس فيما يعشقون مذاهبُ
لقد قتل الأوربيون الملايين في حروبهم الطاحنة مع بعضهم البعض خلال القرن السابق، ولكنهم تعلموا خلال بضع سنين أن ينسوا الماضي ويعتبروا منه، ويخرجوا منه قوة عظمى.  فلا تجد أوربياً يلوم أخر على ما فعله جده وأباه، بل يضع اللوم على من قام بذلك الفعل، فهو المسؤول.  تركوا مآسي الماضي للأموات وعملوا لمستقبل تعيش فيه الأبناء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.  إنه من الجنون أن تُجر فتن التاريخ من آلاف السنيين إلى الحاضر.  فمالنا ومال فتن أموات طوت عليهم القبور (إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿159﴾ مَن جَاءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَمَن جَاءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿160﴾) سورة الأنعام.

"أغرب ما لقيت من انواع العبوديات واشكالها العبودية العمياء .. وهي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد جدودهم وتجعلهم اجساداً جديدة لأرواح عتيقة وقبوراً مكلسة لعظام بالية"
     
ليس من مات فاستراح بميت      إنما الـمـيـت مـيـت الأحياءِ
هل ما يحدث من تفرقة بين المسلمين في الحاضر هو بسبب ما جناه الصحابة؟ أم أنه هو بسبب ما تجنيه أيد الحاضرين للانتقام من الأحياء بسبب ما جنته أيد الموتى؟  إنه تصور البائس الذي كره حياته فلام أباه وأجداده فحقد عليهم.  لقد كتبوا كرههم في كتبهم ليتبعها من يأتي بعدهم، كما أوصى ابو العلاء المعري أن يكتب حقده على أبيه على حجر قبره:
هــذا ما جنـاه أبــي علـي       وما جـنـيـت علـــى أحــد
إنها عقدة الحقد على الماضي، إنها عقدة أبي العلاء المعري.  ولكنه كان حكيماً فلم يجن على أحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق