دخل الأتراك العثمانيون آسيا الصغرى
( تركيا ) في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي نازحين من وسط آسيا متجهين غرباً إلى
الأناضول. وكان بعض قبائل الترك من المسلمين قد سبقوهم إليها في القرن الحادي عشر الميلادي،
وهم من التركمان السلاجقة الذين احتلوا المقاطعات الآسيوية للإمبراطورية البيزنطية
حتى جهات بحر إيجة غرباً، وبعد المعركة الحاسمة التي انتصر فيها المسلمون عام /
464 هـ / على الروم المحتشدين شرقي تركيا، والتي عُرِفت باسم معركة ( ملاذكرد) حيث
هُزِم جيش بيزنطة وأُسِر امبراطورها (رومانوس الرابع) اكتسب القائد التركي المسلم
( ألب أرسلان ) شهرة واسعة في كافة أرجاء العالم الإسلامي مما مكن للقبائل التركمانية
المسلمة من تثبيت أقدامها في بلاد آسيا الصغرى بعد أن دمرت تحصينات الحدود البيزنطية،
واحتلت شرقي الأناضول ووسطه.
تقول إحدى الروايات : " إن القبيلة
التركية من أسلاف عثمان ــ مؤسس الدولة العثمانية ــ كانت ترتحل في وهاد الأناضول بدواً
حين رأت قرابة عام / 1232 للميلاد / جيشين يقتتلان، وأدركت أن أحد الجيشين ليس نداً
للجيش الآخر، فانضمت إلى الجيش الضعيف الذي كاد يلقى هزيمة محققة، فكان انضمام القبيلة
إليه سبباً في انتصاره، وبعد المعركة كانت المفاجأة السارة للقبيلة حين تبين لها أنها
تدخلت لنصرة بني جلدتها، وهم الأتراك السلاجقة الذين كانوا يحاربون فرقة مغولية من
جيش الخان (أوقطاي بن جنكيزخان ) كان عهد إليها استكمال فتح آسيا الصغرىفأقطع السلطان
علاء الدين السلجوقي ( 1219 ــ 1225 ) القبيلة التركية التي ساعدته ضد أعدائه ــ تقديراً
لتدخلها في المعركة لصالحه ــ بقعة مترامية من دولته التي كانت تجتاز دور الاضمحلال
" .
يقول بعض المؤرخين الألمان إن هذه
القصة محض أساطير، لكن بعض المؤرخين الإنجليز يرونها قصة حقيقية لامراء فيها، ويضيفون
قائلين : إن الذي دفع السلطان السلجوقي إلى منحهم الأرض أنه لم يرحب في قرارة نفسه
بهذه القبيلة، فقد أثبتت أنها على حظ وافر من الشجاعة والخبرة الحربية والكفاية القتالية،
فلم يطمئن إليها، ومن ثَمَّ لم يرغب في إدماجها في قواته، فمنحها تلك الأراضي، وشغلها
بالحرب ضد الدولة الرومانية البيزنطية المجاورة لها، فشرعت هذه القبيلة بقيادة رئيسها
(أرطغرل) تهاجم باسم السلطان ( علاء الدين ) ممتلكات البيزنطيين، ونجحت في توسعها الإقليمي،
وحين مات زعيمها، خلفه ابنه ( عثمان ) الذي سميت الأمة والدولة باسمه، وسرعان ما نمت
هذه الإمارة فصارت دولة مترامية الأطراف، امتدت أقاليمها وولاياتها في آسيا وأوروبا
وأفريقيا، وغدت من أكبر الدول الإسلامية التي شهدها التاريخ، ومن أشدها بأساً وأعزها
جنداً.
العثمانيون يعتنقون الإسلام :
هناك رواية مستقاة من الحوليات العثمانية
القديمة تشير إلى أن (عثمان) مؤسس الدولة اعتنق الإسلام على يد عالم تطلق المراجع العربية
عليه اسم ( أدب عال ) يقيم في قرية مجاورة لبلدة ( أسكي شهر ) عاصمة الإمارة الحديثة،
وتزوج ابنته بعد أن رأى في نومه أن ذريته ستحكم
العالم.
وتقول رواية أخرى: " إن والده قضى ليلة في دار أحد الزهاد، وقبل
أن يأوي إلى فراشه جاء الزاهد بكتاب ووضعه على الرف، فاستفسر ( أرطغرل ) عنه فأجابه
: إنه القرآن الكريم كلام الله، فحمل أرطغرل الكتاب وقرأه واقفاً حتى الصباح، ثم نام،
فرأى فيما يراه النائم أن ملاكاً يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم جيلاً بعد جيل على
مدى القرون والأزمان لقاء احترامه القرآن " .
وسواء أكان هذا صحيحاً أم لا، فإن
العثمانيين جعلوا كتاب الله عز وجل نصب أعينهم وحكَّموا فيهم شريعته وحاربوا في سبيل
نشره.
فهذا عثمان يموت وولده أورخان يحاصر
مدينة " بورصة " ويفتحها، وحين يعود إلى عاصمة أبيه يجده قد فارق الحياة
وترك له وصية تكتب بماء الذهب، يقول فيها :
يابنيَّ : إيَّاك أن تشتغل بشيء لم يأمر به رب العالمين، وإذا واجهتك
معضلة فاتخذ من مشورة العلماء موئلاً .
يابنيَّ : أحط من أطاعك بالإعزاز،
وأنعم على الجنود، ولا يغرَّنَّك الشيطان بجندك ومالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة
.
يابنيَّ : إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء
رب العالمين، وأنه بالجهاد يعمُّ نور ديننا كلّ الآفاق، فتحدث مرضاة الله جلَّ جلاله.
يابنيَّ : لسنا من هؤلاء الذين يقيمون
الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد فنحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وهذا ــ ياولدي
ــ ما أنت أهل له.
وهذا فاتح القسطنطينية ( محمد الثاني
) يضع نصب عينيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{ لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها،
ولنعم الجيش ذلك الجيش }، فيدك معاقلها ويفض أسوارها، ليكون ذلك الأمير الذي مدحه صفوة الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومدح جيشه .
ويقدم الدكتور محمد حرب في كتابه ترجمة
نثرية لبعض شعر (محمد الفاتح) رحمه الله تعالى
في الدعوة الإسلامية التي ملكت قلبه :
{ نيتي
: امتثالي لأمر الله ( وجاهدوا في سبيل الله )
وحماسي : بذل الجهد لخدمة ديني، دين
الله .
وعزمي : أن أقهر أهل الكفر جميعاً
بجنودي جند الله .
وتفكيري : منصبٌّ على الفتح، على النصر،
على الفوز بلطف الله.
وجهادي : بالنفس وبالمال، فماذا في
الدنيا بعد الامتثال لأمر الله ؟
وأشواقي : الغزو، الغزو آلاف المرات
لوجه الله .
ورجائي : في نصر الله وسمو الدولة
على أعداء الله .
أما السلطان ( سليمان القانوني ) الذي
وصلت الدولة في عهده إلى أوجها، وحكم ستة وأربعين عاماً، وتوفي وهو على صهوة جواده
أثناء حصار قلعة ( سيكتوار) في المجر، وبموته ينتهي ما كان يعرف بعهد القوة في الدولة
العثمانية، فهو يعلن أن جهاده في سبيل الله وأن قدوته أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، يقول في ديوانه الشعري ــ وهو شاعر يغلب على شعره رقة الأحاسيس ــ :
فلننشر الراية العظمى ونردد اسم الله
ولنسيِّر الجيوش نحو الشرق
فرض الله علينا حماية الإسلام
فلماذا نخلد للراحة ونحمل الذنوب ؟
إني آمل أن يحسن تمثلنا لقيادة أبي بكر وعمر
أيها الشاعر محبي، سر وسيِّر الجيوش (1)
نحو الشرق من الحدود .
وكان الأوروبيون ينظرون إلى الفتوحات
العثمانية على أنها فتوحات إسلامية، وأنهم الرمز الحي المجسد للإسلام، وأطلقوا على
المسلم لفظ (تركي) لأنهما (المسلم والتركي) امتزجا فصارا في ــ رأي الأوروبيين ــ شيئاً
واحداً.
............................................................
1- كلمة
محبي : يطلقها السلطان سليمان القانون على نفسه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق