ولعل سبب هذا التجاهل يعود إلى شعوره
بأنه ليس بوسعه فتح ملف الإخوان المثخن بالمآسي والفواجع من أجل إنهائه ، ولم يكن
يجد نفسه مضطرا لذلك ، لأنه لم يكن لدى الإخوان القدرة على الضغط المؤثرعلى النظام
، ولم يكن صوتهم وصوت المعارضة السورية عامة ، يجد أذنا صاغية واهتماما وتعاطفا
عربيا أو دوليا ، لأن المجتمع العربي والدولي ، كان على وفاق وانسجام مع النظام ،
وإن بدرجات متفاوتة لأسباب ودواع مختلفة .. ولما يترتب على البحث الجدي في هذا
الملف من مسؤوليات والتزامات ، ليس أقلها تحديد مصير ثمانية عشر ألف مواطن سوري من
خيرة أبناء سورية ، مقيدين بالاسم ، تم اعتقالهم من جانب نظام الحكم الذي بات
يرأسه ، ولم يتم الكشف عن مصيرهم لأهلهم وذويهم ، إضافة إلى الأضرار التي أوقعها
النظام خلال حملاته القمعية على الأفراد والممتلكات ، من قتل وسجن للأبرياء ،
واستيلاء على الممتلكات ، والتصرف بها أو تدميرها .. ولما يترتب على فتح هذا الملف
بغرض إنهائه ، من المطالبة بإصلاح حقيقي ، ينهي حكم القمع والتسلط والاستبداد ،
وهو ما لم يكن الإخوان المسلمون يقبلون بأقل منه ، والذي سيفضي حتما إلى تغيير
بنية النظام وتركيبته . لذلك كان يرى أنه بغنى عن فتح هذا الملف في تلك الظروف على
الأقل .. ولم يكن يخطر على باله ، أن الظلم الذي أوقعه نظام حكمه بالشعب لن يدوم ،
مهما بلغت سطوته وجبروته ، وأن الدماء التي سفكت ، والأرواح التي أزهقت ، لن تبرح
تطوف وتنادي بالانتصاف من المجرم السادر في غيّه ، المستمر ، دون اكتراث ، في طريق
ظلمه وإجرامه ..
وأول
مرة جاء فيها ذكر الإخوان صريحا على لسان بشار ، كان بعد لقائه مع شرائح من
المواطنين مع تعاظم المظاهرات ، بزعم الاستماع إلى مطالبهم ، وتلبية احتياجاتهم ،
من أجل وقف التظاهرات الشعبية التي عمت القطر . واستمع وقتها إلى مطالبة شعبية
صريحة برفع الظلم عن الإخوان . وقد تظاهر يومها بأنه سيقوم بعدد من الإجراءات
الشكلية ، تلبية للمطالب الشعبية ، ومنها إصدار (العفو) ، عن الإخوان المسلمون ،
الذين يكفيهم ثلاثون سنة من التعقب والملاحقة والاستهداف ، والحكم عليهم بالإعدام
، على حد قوله .
ولأن
الإخوان المسلمون لم يكونوا يثقون بهذا النظام الغادر الماكر، ولم يكونوا ينتظرون
هذا العفو المبطن الخادع منه ، والعودة إلى الوطن العزيز الغالي ، من أجل الرضوخ
للظلم والإجرام ، ومساندة نظام عصابة قمعي
مجرم فاسد مستبد ، أوغل في دماء الشعب ، وانتهك حرماته ومقدساته ، وسلب خيراته
ومقدراته ، وجعل الوطن مستباحا للأغراب أصحاب الأطماع ، وأصحاب المشاريع الطائفية
المقيتة الحاقدة .. وأكدوا على التزامهم بخيار الشعب الثائر ، المتمثل في الحرية
الحقيقية ، والكرامة الإنسانية الفعلية ، والعدالة الشاملة لكل أبناء الوطن ، وهو
الخيار الذي قتلوا وسجنوا وهجّروا وشرّدوا وأوذوا من أجله ، ولم يتازلوا عن جزء
منه في لحظة ، ولا في يوم من الأيام ..
وعندما
تأكد لبشار أن العرض الذي قدمه للإخوان لم يستحق حتى الردّ منهم ، كما تأكد له أن
الإخوان أصحاب مشروع وطني فعلي منجز لسورية المستقبل ، يلقى القبول من سائر القوى
والأطياف الوطنية الحرة المستقلة ، ويشكل بديلا حقيقيا لحكمه الظالم الغاشم ،
ونهجه الفاسد المستبد .. فإنه وصفهم في خطاب له بعد ذلك بأنهم (إخوان الشياطين ) !
فكانت هذه الشتيمة للإخوان ، تعبيرا عن شعوره بأن الإخوان ومعهم سائر القوى
الوطنية الحرة ، باتوا هم البديل الفعلي لحكمه ونظامه المتهافت ، الذي بدأ
بالانهيار..
وكان
الحوار الذي أجراه مع قناته الإخبارية مؤخرا ، مؤشرا واضحا على شعوره بقرب انهيار
حكمه ، فجاء الحوار من أجل إيصال رسائل التهديد والوعيد – شأن كل مهزوم خائب خاسر -
للدول المجاورة والدول المساندة لثورة الشعب المصمم على ثورته ، الماضي في
طريقه ، الموشك على قطف ثمرة كفاحه وجهاده وتضحياته .. فكان أن أعاد للأذهان ما
أسماه (هزيمة ) الإخوان المسلمون في مطلع الثمانينيات ، وانتصار نظام حكمه عليهم ،
وذلك من أجل الرفع من معنويات عصاباته المنهارة ، التي أدركها اليأس من هذا النظام
، وأيقنت بإنهياره وزواله ، وانتصار ثورة الشعب .. مع انه يعلم تماما ، أن الإخوان
لم ( ينهزموا ) ، لأنهم لم يخوضوا حربا مع النظام أصلا ، وأنّ ما وقع من أحداث ،
كان ردة فعل على إجرام النظام من جانب مجموعات تفردت بقرارها ، أو من أفراد دافعوا
عن أنفسهم ، واختاروا الشهادة ، كي لايقعوا في أيدي عصابة مجرمة حاقدة ، أصدرت
حكمها عليهم مسبقا ، وحتى لايذوقوا أصناف التعذيب والهوان ، قبل أن ينتهي بهم
الأمر إلى الإعدام ..
صحيح
أن الإخوان المسلمون كانوا في ثورة متواصلة على حكم هذه العصابة ، ولم يهادنوا هذا
النظام أو يرضخوا له يوما ، من حين تسلّق إلى السلطة بالتآمر والخداع ، والقهر
والإجبار ، وتسلّط على الحكم ، وزوّر إرادة الشعب بمهزلة الدستور ، وزيف شعاراته
الوطنية ، واستغلها لتكريس حكم عصاباته .. وكانت أداتهم في ثورتهم هي الكلمة
والموقف والرأي ، وليس المواجهة والحرب .. أما المواجهة بالعنف والقمع والسجن
والحرب ، فكانت دائما هي أداة النظام ، ولم يكن ذلك عليهم وحدهم ، وإن نابهم القسط
الأنكى والأشد ، وإنما كانت على كل صوت حر ، يعارض الظلم والفساد والتسلط
والاستعباد ..
كما
تجاهل أن هذه الثورة هي ثورة الشعب بكل مدنه وقراه ، وكل ألوانه وأطيافه وفئاته ،
وليست ثورة النخبة الواعية من المجتمع ، حتى يقرنها بما يوصف بثورة الإخوان . ومع
أن الثورة أو الانتفاضة الشعبية في مطلع الثمانينيات ، لقيت تأييدا شعبيا غير قليل
، بدليل أعداد الشهداء والمعتقلين والمهجرين ، التي تصل إلى مئات الآلاف ، بيد أن
الوعي الجماهيري ، والإحساس المتعاظم بالظلم والاستبداد والاستعباد ، وضرورة
التخلص من هذا الحكم الغاشم الفاسد ، قد حرك هذه المرة كل جماهير الشعب.
وإذا كانت ثورة الثمانين قد امتدت من الأعلى
، أي من جهة ما يوصف بـ (النخبة المثقفة
الواعية) ، إلى الأسفل ، باتجاه جماهير الشعب ، فإن اتجاه هذه الثورة كان من
الأسفل ، أي من جماهير الشعب إلى الأعلى ؛ فجماهير الشعب هذه المرة هي التي حركت
العلماء والمفكرين والسياسيين والأحزاب والمنظمات ، والشخصيات البارزة في المجتمع
، وقادتهم إلى الثورة ، وما تزال هي التي تقود الثورة ، وليس العكس .. وهذا مؤشر
من أقوى المؤشرات المطمئنة على انتصار هذه الثورة، لأنها ثورة شعب حقيقية بكل
أشكالها ومعانيها ، ولأنها سلكت هذه المرة المسلك المنطقي السليم نحو النصر،
وستحقق الثورة أهدافها قريبا بعون الله تعالى وتأييده ، ثم بهمة الرجال الأبطال
الأوفياء لكرامتهم وعزتهم ، وكرامة وطنهم المسلوب وعزته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق