الحريرة التي يطبخها أهل حلب مؤلفة
من الطحين المخلوط بالماء والسمن والسكر تنضج على نار هادئة ، وتؤكل مع الجبنة
" المشلشلة أو المسَيّخة " ، شأنها شأن " المأمونية " التي يشتهر
أهل حلب بها ، صباح الجمعة والأعياد . ومع الحلوى في المناسبات .
وقصة أمير الطبرون سمعتها من والدتي
رحمها الله تعالى عشرات المرات دون أن أحفظها مسلسلة كما ترويها باسلوبها الشائق الذي
بستجلب الاهتمام ، من تسلسل عذب وصوت معبر ونظرات موحية تجعل السامع يتجاوب مع القصة
وراويتها، كأنه يسمعها للمرة الأولى ... وقبل وفاتها رحمها الله تعالى بسنة قلت لها:
قصي علي " أمير الطبرون " وجلست أمامها أكتب على ورقة رؤوس أقلامها كي أعود
إليها يوماً فأخطها . ووضعت الورقة في طيات جواز سفرهما الذي زاراني به في الإمارات
قبل عشرين سنة ، وانتهى مفعوله فاحتفظت به . ونسيت أين وضعت الورقة . فشعرت بالغصة
ليس لجمال القصة فقط ، إنما لأنها حديث الوالدة رحمها الله تعالى البارعُ
.... نجلس أمامها متحلقين ، فنحن نعشق مثل
هذه القصص والأحاديث خاصة بطريقتها ، فهي رحمها
الله ماهرة في إلقاء الشعر وقد كانت تقرضه بأريحية - ولو شاءت أن يكون كلامها كله شعراً
لكان كذلك فهو فيها طبع - وماهرة في تلوين
القصة وعرضها ، تزيد فيها وتلون في كل مرة فيكون عرض القصة لديها متميزاً ..... وإليكم
قصة أمير الطبرون باللهجة الحلبية العامية مطعّمة بالعربية ليسهل فهمها على القارئ....
أراد البرغوث أن يأكل من بقايا الحريرة
بعد أن انتهت الأسرة من إفطارها فوقع فيها ولم تزل حرارتها شديدة ، فمات مسلوقاً فيها
.. ولما رأت ربة الأسرة البرغوث في الحريرة عافتها نفسها ، ورمتها في الزبالة خارج
البيت ...
كانت صديقته القملة ترى وتسمع ، فبكته
وشيعته إلى مثواه الأخير .. ذرفت الدمع غزيراً ووقفت على الزبالة تندب شبابه ، وتتحسر
على وثباته البهلوانية وقفزاته الرائعة . فقالت لها الزبالة : " ليش القميلة باكيون
؟ " فأجابتها : " القميلة باكيون على أمير الطبرون ، إجا لياكل حريرة صار
شوِّه ودْبِيدْبون " . فبحتت الزبالة نفسها - أي فرقت نفسها بعد أن كانت كومة
واحدة - حزناً عليه وتفجعا لمصيره .
جاء القاق " الغراب " يبحث
عن بقايا الطعام في الزبالة فرآها " مبحوتة " فلم يكن ما فيها مجموعاً بل
مفرّقاً ، فسألها متعجباً : " ليش الزبالة باحتون ؟ " فاجابت حزينة :
" الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون إجا لياكل حريرة صار شوِّه
ودْبِيدْبون " فنتف القاق ريشه حزناً وطار إلى الشجرة يندب الفقيد العزيز .
تعجبت الشجرة لما فعل القاق بريشه
وسألته السبب قائلة : " ليش القاق قمبرشت؟ " فأجابها تتقطع أنفاسه ضيقاً
وألماً على البرغوث الفقيد : " القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون
على أمير الطبرون إجا لياكل حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون " فاجتاح الشجرة َ الحزنُ
على على من تعرفه حق المعرفة ينتقل برشاقة بين الأوراق والأغصان ، فصار في طي النسيان
واحتواه الموت، وصار في خبر كان .. فتعرت من
أوراقها وغدت جرداء بنية شاحبة حزناً على الصديق الرفيق .
مرّ الثور بها وهو يجول في البستان ، يلتقط هنا وهناك
طعامه فهاله ما رأى من سقوط أوراقها قبل الخريف بشهور طويلة فسألها السبب قائلاً :
" ليش السجرة خورخشت ؟ " فأجابته
كاسفة البال حزينة : " السجرة خورخشت و القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة
باكيون على أمير الطبرون إجا لياكل حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون " ما إن سمع الثور
بخبر الفاجعة بصديقه الذي لم يكن يفارقه إلا قليلاً فقد كان ينام في جسمه ويقفز بين
أذنيه وذنَبه يدغدغه ويعيش على فضَلاته وقد يغيظه أحياناً فينشه بذنبه ، لكنه كان- والحق يقال-
يستأنس به .. ما إن سمع بالفاجعة حتى عمد إلى صخرة قوية فضرب بها قرنيه فكسرهما
تعبيراً عن الحزن الشديد الذي انتابه لموت صاحبه المفاجئ .. وقصد النهر يغسل الدماء
التي خلّفتها الصدمات القوية على الصخرة القاسية في جبينه فخلفت كدمات واضحة.
لاحظ النهر خلوّ رأس الثور من القرون
، وقد كانت تزين رأسه قبل قليل فسأله السبب متعجباً : " ليش التور بلا قرون ؟"
فأجابه إجابة الموتور والثور المقهور :" التور بلا قرون و السجرة خورخشت و القاق
قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون إجا لياكل حريرة صار شوِّه
ودْبِيدْبون " . لما سمع النهر الخبر اصابته هزة ورعدة ، فارتجفت أتربته وحصاه
، وماجت مياهه فاختلطت بالتراب حزناً على المحترق العزيز .
جاءت فتاة المنزل القريب لتملأ جرتها
من مائه الصافي الرقراق ، فهالها أن تراه معتكر المزاج ، فسالته مشفقة : " ليش
النهر عاكرون؟ " فأجابها منكسر الخاطر : " النهر عاكرون و التور بلا قرون
و السجرة خورخشت و القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون
إجا لياكل حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون". كسرت المسكينة جرتها وعادت باكية إلى
بيتها لا تكاد ترى طريقها لكثرة دموعها.
رأتها أمها على هذه الحالة وقد كسرت
جرتها فسأتها متعجبة مما رأت : " يا بنتي : ليش الجرة كاسرون ؟" فأجابتها
ودموعها تملأ عينيها : " البنت لجرتها كاسرون و النهر عاكرون و التور بلا قرون
و السجرة خورخشت و القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون
إجا لياكل حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون".
اخذ الأمَّ الوجدُ على قتيل الحريرة
، وكان شعرها مرسلاً فنكشته ، وشدت خصلاته بعضها إلى بعض ، فتناثرت على وجهها وأذنيها
، وقرفصت تنشج نادبة معوِلة ، فبدت كالغول الوالهة لفقد وليدها . وهنا جاء الأب من
حقله ليتناول غداءه ويرتاح قليلاً ، فرأى امرأته على هذه الحالة المزرية ، فسألها مستغرباً
: " ليش المره ناكشون؟" فقالت له
ووجهها لا يُرى : " المره ناكشون و البنت كاسرون و النهر عاكرون و التور بلا قرون و السجرة
خورخشت و القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون إجا لياكل
حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون " .
حزن الأب للخبر القاسي ونتف شعر لحيته
حزناً لفراق البرغوث الذي كان يزوره أحياناً في فراشه ويدخل أذنيه، ويقفز وهو مستلق
على أنفه ورموش عينيه .
وحين جاء الابن ورأى والده قد نتف
لحيته علم أن الأمر جلل . فدنا منه برفق وسأله بلطف عما جرى : " ليش اللحية ناتفون
؟ " فأجابه والده متأثراً لمقتل البرغوث الفقيد : " الأب ناتفون و المره ناكشون و البنت كاسرون و النهر عاكرون و التور بلا قرون و السجرة
خورخشت و القاق قمبرشت و الزبالة باحتون و القميلة باكيون على أمير الطبرون إجا لياكل
حريرة صار شوِّه ودْبِيدْبون " .
نظر الشاب إلى أمه وأخته بعد أن نطق والده بما نطق
فرآهما على حالة تدعو إلى الضحك والرثاء بآن واحد ، وقال : ما أشد حمقكم وأضعف عقولكم
!. لأتركنكم إلى بلاد الله الواسعة ولن أعود إلا إذا صادفت من هم أشد منكم حمقاً وأضعف
منكم عقلاً .
مشى منزعجاً ساعات لا يلوي على شيء إلى أن دنت الشمس من المغيب ، ورأى قرية فرغب أن يستضيفه أهلها
تلك الليلة فسمعهم يقولون خائفين : "
طلع صرم ضيعتنا " فسأل متعجباً"
وما هو صرم الضيعة ؟ " فاروه
" شقائق النعمان ". فوعدهم إن أعطوه ما يريد من المال أن يعيد الصرم إلى
داخل الأرض ، فوافقوه على ما طلب شاكرين . فمضى الليلَ يقطع زهر شقائق النعمان على
ضوء القمر حتى إذا أصبح الصباح وشعاع الشمس لاح كان قد انتهى من قطفه ووضعه في أكياس
حملها إلى مكان قريب فدفنها فيه . فرح أهل القرية مما فعل ووهبوه أكثر مما وعدوه به
، وضافوه يومين استراح فيهما ثم سار نحو الشرق . لقد كانوا بالفعل حمقى .
وصل عصراً إلى قرية فسمع صوت الطبول
، فلما دخلها رأى الموائد عامرة بما لذ وطاب .
فالقرية تعج أنساً وفرحاً بعرس ابن المختار . شاركهم طعامهم وفرحهم ، وكان الجميع
يرقصون ويهزجون ويلعبون مبتهجين .. وفجأة انقلب الفرح ترحاً والانس هماًّ وغماً ..
ووجم الجميع من هول المصيبة التي لا بد واقعة !! ما السبب؟ ولم هذا الانقلاب المفاجئ
؟! حين عرَفَ السبب زال منه العجب لكنه استسخف عقولهم ورآهم أكثر حمقا من أهل القرية
التي زارهم أمس ... كانت العروس تلبس قبقاباً عالياً - والقبقاب حذاء من الخشب وسيره من الجلد - ، وهذه
عادة زف العروس إلى بيت زوجها ، ولم يكن باب البيت عالياً ، فكيف تدخله ؟! لا ينبغي
هدم سقف الباب .... سيقولون : إنها هدمت بيت زوجها من أول يوم ! ولو قطعوا رأسها ماتت
، أو قطعوا رجليها عاقت !! إن الأمر لمصيبة كبيرة ما بعدها مصيبة ! ... تقدم منها وأمرها
أن تنحني قليلاً ، فانحنت وصار الباب أعلى منها ، وشدها من يدها فدخلت . كان الناس
مشدوهين ودموعهم لا ترقأ ، فعادت الزغاريد تلعلع في جنبات القرية . وغمره الجميع بالهدايا
والعطايا . .. وأكرموه غاية الإكرام .
عاد الابن إلى أهله .. لماذا ياترى
؟ ... لأنه وجد من هم أشد منهم حمقاً ، وأضعف منهم عقلا. ففي الدنيا الذكي والغبي ،
واللبيب الأريب والسفيه العيي . ومع ذلك فالكل يعيشون ، ويأكلون ويشربون ، ويتزوجون
ويخلـّفون .
الشوّه : الشيّ ، مشويا .
الدبيدبون: لا أدري معناها . ولربما يدوسه الناس
غير آبهين به .
د: عثمان قدري مكانسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق