إن تربية حزب البعث لا
تحث على البذل والعطاء والتضحية، والإيثار، وإنما تربي الشبيحة والإعلام المضلل،
والقطيع الهائم من الكلاب المسعورة التي تنهش وتفترس وتعض كل من يقف في طريقها دون
تمييز.
لقد مسخ حزب البعث والنظام
الوحشي المفاهيم لدى الشعب السوري، خلال عقود من الزمان، وغزت العقول فلسفات غربية،
وكأنها مسلمات لا نقاش فيها ولا جدال، فالفكر الغربي والفلسفة الغربية للإنسان
والحياة والأخلاق تجعل النفع المادي هو
الأصل في العلاقات بين البشر فتقوم على الصراع، لا على التعاون، وعلى الأنانية لا
على البذل والعطاء والإيثار، ولكن هذه الثورة المباركة قلبت الموازين، فالشعب الذي
رباه حزب البعث انقلب عليه، والفلسفات التي تم حشوها في أذهان الطلاب والطالبات
تلاشت وتبخرت، والأفكار الغربية التي غزت الشباب والفتيات تقهقرت ورجعت مدحورة
خائبة، بفضل الله سبحانه وتعالى.
إن الحياة بأبعادها الرائعة ومعالمها السعيدة، والرضا والسلام الداخلي للنفس
البشرية، والسلام الخارجي للعلاقات مع الناس، والمبادئ والمثل والفضائل تظل في
الذهن وفي قواميس اللغة حتى يوجد من يمثلها على أرض الواقع،
ولا خير من يمثلها في هذه الفترة الزمنية من تاريخ البشرية إلا هذه الثورة
المباركة، وعلى النظام الوحشي، وأمريكا وأوربا وروسيا والصين والعالم أن يتعلم من
هذه الثورة كيف تكون الحياة ؟ وعلى أي أساس تكون الأخلاق؟
فالتوبة والإنابة والمراقبة وتعظيم حرمات الله، والتوكل على الله والثقة بما
عند الله وحسن الظن به والاستعانة به، والارداة والعزم واليقين والاحسان والتواضع
والرضا والصبر والطمأنينة، والعطاء والبذل والتضحية والإيثار والفدائية والعزة
والكرامة والاستبسال والاستشهاد، كلها قيم عظيمة جعلت منها هذه الثورة المباركة صورا
حية، تمشي على الأرض، فخرجت من بين الصفحات والكتب إلى أرض الواقع، مقتدية بالحبيب
المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعادت سير الصحابة والتابعين.
لقد تساوت الحياة مع الموت لدى الثوار رجالا ونساء وأطفالا، وغاب الفرق بين
الفرد والجماعة، فالشهيد مصاب الجميع، والجريح نزف الجميع، والشهيدة يحملها الجميع
فهي نبراس لهم على الطريق.
تمطر السماء رصاصا وصواريخا، فإذا أبواب البيوت مفتوحة، مكتوب على جبين
أصحابها " أدخلوها بسلام آمنين
" حتى وان كان صاحب البيت امرأة، "هاد البيت بيتك وأنا متل أمك وبناتي متل
خواتك " وهل
هناك واقع يصور هذه الآية الكريمة {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
مثل هذا التصوير الحي.
كانت الهتافات تخرج من حناجر الثوار في كل مدينة وكل قرية وكل بلدة تهتف للمدن
والقرى والبلدات الأخرى :
يا درعا داعل معاكي للموت
يا حولة حمص معاك للموت
يا درعا حمص معاك للموت
قامشلي: يادرعا
حنا معاك للموت، ياحمص حنا معاك للموت
دوما : يا شغور احنا معاك للموت
وهلم جرا .. هتافات للمؤازرة والنصرة والتضامن ..
هتافات تبعث الأمل والسكينة والطمأنينة والعزيمة والإصرار، وهتافات يموت الفرد فيها لتحيا الجماعة، وتتألم الجماعة ليحيا الفرد،
وهذه هي طبيعة الإنسان المؤمن، يقول الشهيد سيد قطب " إن طبيعة المؤمن هي
طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن
في تحقيق الخير ودفع الشر "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "، وتحقيق
الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون، ومن هنا تقف الأمة المؤمنة
صفاً واحداً، لا تدخل بينها عوامل الفرقة، وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة
فثمة ولابد عنصر غريب عن طبيعتها وعن عقيدتها هو الذي يدخل بالفرقة، ثمة غرض أو
مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها، السمة التي يقررها العليم الخبير !".
بينما الآن تغيرت الهتافات فعندما قصفت حمص وكان ما كان من وحشية النظام
وبربريته قامت مدن وقرى ترفع لافتات لم يستوعبها العالم الغربي وتجاهلها العالم
الشرقي حتى لا يراها .. لافتات يختلف محتواها عن هتافات المعية للموت، بل لافتات
تكتب بماء الذهب:
ففي مدينة الحراك " نطالب
بقصف مدينة الحراك، إذا كان ذلك يخفف عن أهلنا في حمص "
وفي دوما "كرمالك يا حمص خليهم يضربونا بالدبابات"
وفي حوران أحد الأطفال يحمل لافتة:
كلنا دفعنا سعر الرصاص وليس فقط حمص، فحن أيضاً نريد نصيبنا منه .
وفي مارع " اقصفونا بالدبابات واتركوا حمص"
وفي الرقة " اقصفونا واتركوا
بابا عمرو "
وفي جسر الشغور " أوقفوا قصف حمص واقصفونا "
إنها لافتات يعجز القلم عن التعبير، وتتوقف الكلمات عن أداء حقها، لافتات صدق وإخلاص
وثبات ..
إنها مواقف غالية عزيزة، وسامية مباركة، وبمثل هذه المواقف ينهار النظام
الوحشي في سوريا، وينهزم كل جيش يواجه أمثال هؤلاء.
إنها صورة في غاية التضامن
والترابط والتساند، كما قال صلى الله عليه وسلم "المؤمنُ للمؤمن كالبنيان
يشدّ بعضه بعضًا وشبَّك بين أصابعه " البخاري(2446) مسلم (2585)
أي إيثار هذا، وأي عطاء، وأي رجاء على حساب النفس وسعادة الذات والتفاني في الآخر
، والذوبان فيه، كالجسد الواحد الذي يتأثر كليا بتأثر أي عضو فيه. كما قال صلى
الله عليه وسلم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد
الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " البخاري (
6011) ومسلم (2586)
لم يعد الأمر متعلق بالإيثار في الأمور المادية، يجوع ليشبع أخوه، ويسهر لينام،
وإنما إيثار بالحياة، أن يموت ليعيش أخوه .
"اضربونا"، "اقصفونا "، " واتركوا حمص" هتافات
ونداءات تعلوها الثقة بالله، والتضحية من أجل الحق الذي يحمله الثوار، واقتحام
عقبات الذات، وتمزيق شرنقة الأنانية داخل النفوس، والاستعلاء على الباطل.
"اضربونا"، "اقصفونا "، " واتركوا حمص" انه
إيثار المنتصر، الواثق بالنصر، وليس إيثار اليائس من الحياة، إنه نداء الأمل الحلو،
والرجاء الباسم، والأماني الجميلة، والأفق الواسع، والحياة السعيدة.
"اضربونا"، "اقصفونا "، " واتركوا حمص" تضحيات
وتضحيات في سبيل الله، فالحق لا ينتصر وحده، بدون رجال ونساء وأطفال يؤمنون به
ويعيشون من أجله ويموتون في سبيله.
"اضربونا"، "اقصفونا "، " واتركوا حمص" ونشيدنا
" على الجنة رايحين شهداء بالملايين" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق