أهدي هذا المقال لعشاق نظرية المؤامرة والذين يرون
الحياة بمجملها مسلسلاً من المؤامرات المتتالية، بحيث لاتنتهي واحدة إلا لتبدأ
الثانية، فتعلق عليها الأنظمة فشلها في القيام بمسؤولياتها. وأشهر تلك النظريات
على الاطلاق والتي استهلكت من قبل الأنظمة الديكتاتورية لحد القرف هي نظرية
المؤامرة الصهيونية الأمريكية والتي تعرف أيضاً بالصهيوأمريكية، ولاننسى أيضاً
البريطانية والفرنسية، وأيضاً تلك الجديدة مثل التركية والقطرية والسعودية.
من جهتي، فلست في هذا المقال بصدد إنكار وجود المؤامرات،
فهي موجودة ربما من بدء الخليقة، ولكن ماأحاول أن أقوله هنا أن الأنظمة التي تعلق
كل فشل وإخفاق ومعارضة على شماعة المؤامرة، كان الأولى بها أولاً أن تنظر إلى
تقصيرها وأخطائها وظلمها لشعبها وتنكيلها به وسرقتها له قبل أن تتحجج بنظرية المؤامرة
وتحملها المسؤولية وتبرأ نفسها ورجالها من أفعالهم. وعلى كل حال، فأنا لن أخيب
آمال محبي هذه النظرية لأنهي مقالي بهذه السرعة وهذه البساطة وهم الذين يتوقعون
معرفة هوية تلك المؤامرة التي استعملتها في عنوان المقال.
للأسف فان المؤامرة التي دعوتها في العنوان (بمؤامرة
المؤامرات التآمرية المتآمرة) هي ليست واحدة من تلك التي ذكرتها سابقاً،
ولكنها واحدة لاتذكر إلا نادراً في سياق هذا الموضوع.
فاذا عدنا قليلاً إلى الوراء
لنلقي نظرة سريعة على ماآلت إليه الدول العربية بعد الاستقلال، سنجد أن كافة هذه الدول،
باستثناء اثنتين، انتهت إلى نظام (الحاكم الفرد)، بغض النظر عما إذا كان
ملكاً أو أميراً أو سلطاناً أو زعيماً ثورياً. وهذا في رأي الشخصي مالم يكن صدفة
بأي حال من الأحوال، فالدولتين الاستعماريتين التقليديتين حينها، انكلترا وفرنسا،
ومعهما أمريكا القوة العظمى الصاعدة آنذاك، كانت كلها قد توصلت إلى تفاهم وهو أن
تعيين أو تسهيل وحماية أنظمة فردية في الشرق الأوسط هو أقل كلفة وأكثر حضارة من
الاحتلال العسكري الذي انتهت (موضته) وبات اسمه (الاستعمار القديم). ولم تكن هذه
الدول الاستعمارية لتمانع أن يتغير أي من هذه الأنظمة العربية الفردية لاحقاً
مادام النظام القادم هو فردي أيضاً، فالتعامل مع (فرد) ديكتاتور على رأس دولة يبقى أسهل بكثير من
التعامل مع مؤسسات دولة ديمقراطية بحاجة لأخذ موافقة الشعب كلما أرادت عقد صفقة
(مشكوك بأمرها) مع الغرب.
لاشك أن أولوية الغرب كانت في ذلك الوقت، وعملياً مازالت
حتى اليوم، هي ضمان أمن وسلامة اسرائيل، وبالتالي فان الحاكم العربي الذي يساعد
على ذلك، علناً أو بتكريسه على أرض الواقع، هو حاكم ليس للغرب مشكلة حقيقية معه.
بل ويسعده أن يدعمه علناً أو سراً حتى إذا كان هذا الحاكم يرفع مايرفعه من شعارات
معادية للغرب ومقاومة لإسرائيل وممانعة لخططهما. وبالعودة إلى الفترة التي تلت إستقلال
الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، سنجد أن دولتين عربيتين فقط خرج منهما
الاستعمار وترك فيهما نظامين دستوريين ديمقراطيين كانا الأقرب للأنظمة الأوربية في
ذلك الوقت، وأعني بهما سورية ولبنان.
أما لبنان فيبدو أن الغرب أراد له أن يكون صمام أمان لبقية
الدول العربية الاستبدادية بمجملها، والملجأ السياسي والانساني للمضطهدين في
بلدانهم والذين بلجوئهم إليه يخففون ضغوطهم على حكامهم المدعومين من قبل الغرب.
كما أن لبنان هو بالأصل بلد صغير جغرافياً وضعيف عسكرياً وبالتالي لايمكن أن يشكل
تهديداً لأحد في المنطقة. وفعلاً هكذا كان إلى حين انتقلت إلى أرضه فصائل المقاومة الفسطينية بعد
أحداث ايلول الأسود في الأردن عام 1970، فكان على لبنان أن يدفع ثمن ذلك بفقدانه
لهامش الديمقراطية والحرية الذي كان يميزه عن بقية الدول العربية وأن يتحول إلى
ساحة حرب للدول المجاورة والاقليمية تحت عنوان الحرب الأهلية.
أما سورية فكان لها قصة مختلفة. فهذه دولة لها موقع
جغرافي استراتيجي غاية في الأهمية كونها تشكل نقطة التقاء قارات العالم القديم
الثلاث، بالاضافة لمجاورتها لفلسطين التي تستضيف على أراضيها مقدسات كافة الأديان
السماوية والتي تم زراعة الكيان الصهيوني فيها حديثاً. إذاً فدولة بهذه الأهمية لم
يكن الغرب ليسمح لها أن تكون مختلفة عن باقي شقيقاتها في الدول العربية.
وهذا ماحصل فعلاً حيث لم تكد تمض أربع سنوات على الحكم
الدستوري للرئيس شكري القوتلي صاحب لقب (أبو الاستقلال) حتى نجح الغرب بضم سورية
إلى نادي دول (الأنظمة الفردية) بتسليط العسكر عليها. ولايهم كثيراً بعد ذلك من
قام بانقلاب على من ولصالح من، فما يهم أن سورية التي أنهكتها شراذم العسكر
بانقلاباتها ومجازرها وفسادها على مدى مايقرب من النصف قرن، مازالت وحتى اليوم
عضواً يُضرب فبه المثل في هذا النادي حتى انطبق عليها المثل الشعبي (من هالك
لمالك لقباض الأراوح).
إذاً فمؤامرة المؤامرات التي خصصت لها عنوان هذا
المقال هي تلك المتمثلة باستعمال الغرب لهؤلاء الحكام كأدوات للسيطرة على مراكز
القرار في بلادنا بعد سحب جيوشه منها. ويبدو المشهد هنا وكأن الغرب قد ترك ورائه (وكلاءً)
يتمثلون في هؤلاء الحكام فضرب بذلك ثلاثة عصافير وليس عصفورين بحجر واحد. فهؤلاء
الحكام وفروا عليه كلفة الاحتلال الباهظة مادياً ومعنوياً وبشرياً من جهة، ورعوا
مصالحه التي هي أصلاً مايهمه في بلادنا من جهة ثانية، وحموا وجود اسرائيل وحدودها
من جهة ثالثة. وإذا نظرنا إلى النتيجة النهائية على أرض الواقع لما قامت به كافة
الدول العربية بلا استثناء خلال العقود الماضية، لوجدنا أن هذا هو عملياً ماحصل
ولم يحصل سواه، بغض النظر عن التفاصيل المتمثلة بالشعارات المرفوعة للحكام
والمواجهات الرمزية أو الدونكيشوتية لبعضهم مع إسرائيل والغرب.
ومايجعل هذه المؤامرة تحصل على لقب (مؤامرة
المؤامرات) أن الغرب وبعد حمايته وصيانته لهؤلاء الحكام على مدى أكثر من ستة
عقود، ومحاولته مساعدتهم على تجاوز محنتهم الحالية مع شعوبهم، إلا أنه وبعد فقدانه
الأمل في بقاء كل حاكم على حدة، رأيناه ينتقل سريعاً وبلا خجل إلى معسكر الشعب
ليلعب دور (المؤيد) لثورته المطالبة بالحرية والكرامة. ثم وبعد سقوط (وكيله) الديكتاتور،
يتقدم وبكل وقاحة ليمنن الشعب والثورة بمساندته لهما، بل ويطالب بتسديد كلفة تلك
المساندة بشكل امتيازات اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، مع أنه وقبل أيام معدودة
فقط كان هو، أي الغرب، يدعم هذا الديكتاتور الذي حرم شعبه من الحرية والكرامة طوال
تلك العقود.
إن أولوية الشعوب المنتفضة اليوم هو بالدرجة الأولى
التخلص من جلاديها من هؤلاء الحكام (الوكلاء) وبأي ثمن. بعد ذلك سيكون
عليها أن تضمد جراحها وتلتقط أنفاسها لأن مستقبلها الجديد سيبدأ من تلك النقطة،
أما بعد ذلك فستعرف كيف تفرق بين أعدائها وأصدقائها وكيف تتعامل مع كل واحد منهم
بما يستحقه.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
الاثنين (مجزرة بابا عمرو) 14 ربيع الأول 1433، 6 شباط،
فيبروري 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق