الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-07-03

الحرب ! د.أحمد محمد كنعان


لقد كانت الحرب أولَ فعلٍ يرتكبه الإنسانُ ضد أخيه الإنسان منذ أيامه الأولى فوق هذا الكوكب التائه في فضاء الله الواسع، وتلك هي قصة وَلَدَيْ آدم التي رواها القرآن الكريم : ((واتْلُ عليهِم نبأَ ابْنَيْ آدَمَ بالحقِّ إذ قَرَّبا قُرباناً فتُقبِّل منْ أحدِهما ولمْ يُتَقَبَّلْ من الآخر قالَ لأقتلنَّكَ، قالَ إنَّما يتقبَّلُ اللهُ منَ المتَّقين 0 لئنْ بَسَطْتَ يَدَكَ إلَيَّ لتقتلَني ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقْتُلَك، إنِّي أخَافُ اللهَ ربَّ العالمين 0 إنَّي أريدُ أن تَبُوءَ بإثْمي وإثْمِكَ فتكونَ مِنَ أصْحابِ النَّارِ، وذلِكَ جزاءُ الظالمين 0 فَطَوَّعَتْ لَهُ نفسُهُ قَتْلَ أخيهِ فَقَتَلَهُ فأصبحَ منَ الخاسِرين)) سورة المائدة 27 ـ 30، ومنذ تلك اللحظة المشؤومة بدأ التاريخ الفعلي لأخطر ظاهرة عرفتها بشرية على مر العصور، ألا وهي الحرب، وكانت حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل أشبه بالسم الناقع الذي حقن في شرايين التاريخ البشري فلم يبرأ منه حتى اليوم !

وقد اعتبر الفيلسوف الإغريقي هيروقليطس ( 535 – 475 ق م ) أن الحروب هي ( أمُّ التاريخ ) لأن دورها كان محورياً في صناعة الأحداث، واعتبر المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ( 1889 ـ 1975 ) أن الحرب والرِّقَّ هما أعظم مرضين ابتليت بهما البشرية عبر تاريخها الطويل، وقدَّر المؤرِّخ السويسري "بابل" أنه منذ العام 3500 سنة ق.م أي خلال 5500 عاماً الماضية لم يكن هناك سوى 292 عاماً فقط خالية من الحروب، وهذا يعني أن بين كل 19 سنة كانت هناك 18 سنة حافلة بالحروب مقابل سنة واحدة فقط خالية من الحرب، وخلال القرون الثلاثة الأخيرة (18، 19، 20) وقعت في أوروبا وحدها 286 حرباً، بمعدل حرب واحدة كل عام !

واضح إذن أن الحرب كانت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ البشري، وهي ـ للأسف الشديد ـ ما تزال كذلك حتى يومنا الحاضر، وكانت الحروب على مدار التاريخ محرقة رهيبة للجنس البشري، إذ قضت على ملايين لا تعدُّ  ولا تحصى من البشر، وعلى سبيل المثال فإن الحربين العالميتين اللتين وقعتا خلال النصف الأول من القرن العشرين الميلادي راح ضحيتهما أكثر من 70 مليون نفس، وأكثر من 100 مليون من المشردين والمعاقين واليتامى والأرامل !

أضف إلى هذه المآسي ما تستهلكه الحروب من مبالغ طائلة جداً قدِّرت في أواخر القرن العشرين الميلادي بحوالي 3,2% من الناتج المحلي، وهذا يعني أن البشرية تدفع ضريبةً باهظةً جداً نتيجةَ وَلَعِها الشديد بالحرب، ولو أن هذه الأموال أنفقت على الأنشطة الحيوية كالتعليم والصحة والاقتصاد لعادت على البشرية بفوائدَ جمَّة، ولكن يبدو أن البشرية مازالت عند ظن الملائكة فيها حين أخبرهم الله عزَّ وجلَّ عن خلق الإنسان فقالوا : (( أتجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )) سورة البقرة 30، ولم تحقق البشريةُ حتى اليوم عِلْمَ اللهِ تعالى فيها إذ (( قال إنِّي أعلمُ ما لا تعْلَمُونَ )) سورة البقرة 30 .

أما السلاح الحربي فقد تطور عبر التاريخ البشري تطوراً كبيراً، فبدأ من الحجر وانتهى بالقنابل الذرية، فالهدروجينية، فالنترونية، وبعد أن كان السلاح فردياً بسيطاً أصبح قبيل نهاية القرن العشرين سلاح تدمير شامل قادر على تدمير العالم بأسره من خلال ضغطة واحدة على الزر !

وقد شهد العالم عبر تاريخه الحربي الدامي معارك فاصلة أثرت تأثيراً كبيراً في التاريخ البشري، وشهد جيلنا الحاضر في الفترة ما بين ( 1945 ـ 1982 ) فورة ثانية وقع فيها عدد هائل من الحروب بلغ  132 حرباً بمعدل ( 3,5 حرباً / كل عام )، التهمت أكثر من 100 مدينة أو قرية، وأودت بحياة أكثر من 35 مليون نسمة .

ويقدَّر الخبراء العسكريون أن مخزون الدولتين الأكبر ( الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي ) من الأسلحة الذرية يبلغ عشرات الآلاف من الرؤوس النووية المدمرة التي لو وزعت على أهل الأرض لكان نصيب كل إنسان منها ( 10,000 كلغ ) من مادة ت.ن.ت شديدة الانفجار، هذا الإنسان الذي تكفي بعوضة تافهة لقتله .. فتأمل !

ويظن كثير من الناس أن الخسائر البشرية الفادحة لا تحصل إلا في الحروب الكبيرة، إلا أن الإحصائيات تعطينا صورة أشد قتامة عن تلك الحروب الصغيرة والصراعات المحلية التي تحصل هنا وهناك، ما بين الحين والآخر، وقد لا يحفل بها الإعلام كثيراً مع أن خسائرها قد تفوق أشد الحروب ضراوة، ففي دراسة نشرت عام 1986 تبين أن الذين قضوا نحبهم رمياً بالرصاص والقنابل خلال الأربعين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية فاق عدد العسكريين الذين قتلتهم تلك الحرب الرهيبة، وأن عدد الحروب التي وقعت بعد تلك الحرب وحتى نهاية العام 1992 بلغت 200 حرب بمعدل ( 9 حروب/سنوياً ) في حقبة الخمسينات، و ( 14 حرباً / سنوياً ) في حقبة السبعينات !

ويخبرنا تاريخ الصراع البشري المرير أن الحروب تندلع في العقول قبل أن تندلع في ساحات القتال، ولهذا فإن جهودنا اليوم وحرصنا على مستقبل البشرية يحتم علينا أن ننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام إذا ما كنا نرغب حقاً في الخلاص من هذا الداء العضال، وصدق من قال : ( لا تبحثوا عن الحرب في براميل البارود، بل في رؤوس القتلة والسفاحين)، ولعل من أعجب مفارقات الحروب أن الدهاة هم الذين يخططون للحرب، والأبطال والشجعان والمخلصين هم الذين يخوضونها، أما الانتهازيون فهم الذين يقطفون ثمارها آخر المطاف .. فأين نحن من هؤلاء !

د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق