الدكتاتورية،
كارثة تصيب الأفراد والجماعات، ومرض خطير، يبتلى به كثير من البشر، وتمارسه بعض
الأحزاب والجماعات، وظهر هذا المرض أكثر ما ظهر، في بعض الدول، بحكم تركيبتها
البنيوية ( الشمولية) التي تفرض هذا النوع من السلوك الاضطراري، الذي هو عبارة عن
نفق أوله تركيب تربوي عاطل، ونهايته دكتاتورية تطحن الأخضر واليابس.
وليس هدف
هذا المقال، شرح معاني الدكتاتورية، والتسلط الفردي، وعشق الذات، وحب السيطرة، ولا
بيان آثار هذا المرض على الفرد والجماعة والدولة، ولا يتطرق إلى كل الأسباب التي
تؤدي لانتشار هذا الوباء المر، والطامة المريرة، فهذه المعاني لها غير هذا المقال
الموجز.
ولكني في
هذا المقال، سوف أبسط القول، في سبب من أسباب انتشار هذه المصيبة في حياة الناس.
ولا أشك
لحظة واحدة، أن من أكبر أسباب شيوع هذه الظاهرة، غياب معاني التناصح، وقولة الحق،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لذا عبر عن هذا الأمر نبينا- صلى الله عليه
وسلم- بالجزء عن الكل لبيان أهمية، هذا الجزء، حيث قال: الدين النصيحة) ويا له من
تعبير دقيق يحمل في طياته، كثيراً من معاني معالجة مثل هذا المنكر الكبير الذي نحن
بصدد البحث عن واحدة من معاني أسبابه.
ذلك أن المرء بطبيعته يحب من يثني عليه، ويحسن
عمله، ويمدح نتاجه، ويبارك جهده، وتنتشي نفس الإنسان وتنتعش، في حال الإطراء
عليها، خصوصاً إذا كانت النفس مريضة، أو أن صاحبها يعيش عقدة نقص، لعامل من عوامل
الحدوث والبروز لمثل هذه أشياء.
وبالمقابل فإن المرء لا يحب من ينقده، ويقلل من
شأنه، وينتقص من جده، وهذا في الغالب الأعم، لا يستثنى من هذا إلا من جاهد نفسه،
حق جهادها، وأعطاها ما تستحق من تربية، وتهذيب، وتزكية، ودربة ومران على المعاني
التي تجعله يقبل النقد بصدر رحب، ويسمع النصيحة، بنفس طيبة، ويفتح قلبه لمن يوجهه،
ويدله على عيوبه، ورضي الله عن سيدنا عمر، الذي رفع شعار( رحم الله امرءاً أهدى
إليّ عيوبي).
وهذه
إشكالية ضاربة أعماقها، في تاريخ الإنسان،عمقها في دواخل النفس البشرية،
وتعقيداتها في مجالات وسعة معاني الخلل، بين التدسية والتزكية، وهي قضية بحثها
العلماء بحثاً دقيقاً واسعاً، حتى إن أحد المفكرين الإسلاميين من المعاصرين، جعل
هذا قانون النشوء والنهوض للحضارات، من خلال عمق الدلالة التي تكون في طيات هذا
المعنى، وبالمقابل معالم الدمار والزوال، وعوامل السقوط والضياع، في الوجه الآخر
للحقيقة.
ونتج عن
هذا أن زالت دول، وتحطمت ممالك، وتفجرت ثورات، وبادت أمم، وأريقت دماء حتى الركب،
وكسرت رؤوس، وضاعت أجيال، وقتل أطفال ويتموا، وترملت نساء، وحدث ما تقشعر منه
الأبدان، ويشيب لهوله الولدان، ويجعل الحليم حيران.
وما
فرعون، سوى نموذج من نماذج الصدق على هذه الحقيقة المرة، وصورة من صوره المؤلمات
الناتجة عن هذه المسألة، وبقيت ظاهرته تنسحب على كل زمان ومكان، وإلى اليوم، فيقال
عن واحد من الناس: هذا فرعون هذه الأمة.
وما أكثر
النماذج في هذا الشأن الجارح، في القديم والحديث.
ومن
أسباب، بروز مرض الدكتاتورية والتسلط وحب الذات، عدم وجود لغة التناصح، فالنصيحة
مطلوبة، وهي تصحيح للمسار، وتقويم للعوج، وفائدتها تعود على الفرد والمجتمع
والأمة، وهي في صالح المنصوح أولاً، لو كان يعقل، وتجرد عن رعونات نفسه. ذلك أن
هذا التسلط، بحكم استغرقه بنشوته المهلكة، في كثير من الأحيان لم يعد يرى سوى
محراب الذات، اتخذه معبداً، فهذا يحتاج إلى من يذكره، أو يحتاج –على تعبير بعض
الساسة- إلى من يوجه له صدمة حكيمة، حتى يصحوا من سكرته، ويفيق من غفلته، من هنا
تجد العامة، يرددون المثل الشعبي السائر( يا فرعون مين فرعنك، قال ما شفت حدا
يردني)، وفي هذا دلالة كثير من المعاني التي نريد.
دخل علي
عزت، رئيس البوسنة والهرسك، يوم الجمعة- وجاء متأخراً- فقام الناس له، وفسحوا له
حتى جعلوه في الصف الأول، فالتفت إليهم قائلاً: هكذا تصنعون طواغيتكم.
نعم
الأمة صنعت كثيراً من الطواغيت، بما صفقت ومدحت وأثنت، وغيبت قانون النصح، وبيان
العيب ( المعارضة الصالحة).
ومصيبة عدم سماع النصيحة، تصيب أول ما تصيب ذلك
الذي لم يسمع النصح، وإن كانت تأتي عليه، وعلى غيره، فالسكوت على العيوب، وعدم قول
الحق، كارثة، تكاد لا تستثني أحداً.
يرى
أحدنا العوج، فلا نقول كلمة نصحح، يلاحظ الخطأ فيلوي عنقه، لا يقول شيئاً، بل
رأينا في الأمة، من يصفق للطاغوت، ومن يغني له، ومن يثني عليه- وهو مجرم ظالم
دكتاتور- سمعنا علماء سوء، يسخرون نصوص الشرع، ويلوون أعناقها، في صالح خدمة
الحاكم المستبد، الدكتاتورية ويل، والأنكى منها من يصنعون الطاغية.
واليوم
مع ثورات الربيع العربي، تتجدد الهمة، في أمة سئمت من حاكمها الدكتاتور، والأنظمة
الشمولية، حالة من التجديد تسري في جسم هذه الأمة، لعلها تكون عامل خير في تأصيل
معالم الفضل، في جملة من المعاني التي تعمل على تأكيد أن الحاكم، خادم للأمة، ولا
خصوصية له تمنع من مسألته، أو جعله فوق القانون.
نريد أن
تشيع ثقافة، التناصح، التي تحمي البلاد والعباد، من ورط ما جره التصفيق على أمتنا،
من خراب ودمار، وما أحدثه من إهلاك الحرث والنسل، وما نتج عنه من سوء وفساد وضياع.
نريد في
يومنا الباسم القادم، حرية نتنفس فيها الصعداء، تكون عامل بناء وتصحيح، وسبيلاً من
سبل تفتح الأزهار، حتى نفيد من إمكانات الأمة، دون استثناء، فلا تمييز بين أحد،
ولا يتقدم إلا من يستطيع حمل الجرة.
على
المتولين مفاصل الأمور في سوح النجاح،
لنتاج الربيع العربي، أن يحدثوا التجديد، ويعلنوا عملياً عن التغيير، من خلال
الممارسة، التي تخالف عفن الدكتاتوريات السابقة، فيشعر الناس أنهم أمام صورة نظيفة،
وحالة مطمئنة، وصفحة جديدة.
الناس
يبحثون عن التواضع، ويحبون من يكون قريباً منهم، في كل شيء، يعيش همومهم، يجلب لهم
المصالح، ويدفع عنهم المفاسد، ويحسون بالأمان معه، هو منهم وإليهم، تصفق له قلوبهم
لا أيديهم، ترتسم صورة عمله الفاضل في كل زوايا حياتهم، فتتحطم الأصنام المصنوعة،
والصور المزركشة المعدلة، وتشرق الحياة بالعدل والنصح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق