وتستمر الثورة زكية طاهرة في أجمل حُلّة, صيحات التكبير
ترافق شعارات الحرية والعدالة الإجتماعية ممزوجة بزغاريد النساء وأناشيد الأطفال
تعلوها كلمات الأذان من المساجد و الجوامع, ويتساقط الشهداء فيرفع الله قدرهم في
الجنات ويُزكي نار الثورة بدمائهم, ويتغير وجه سورية باسماً رغم الآلام, ضاحكاً
رغم الاوجاع, مستبشراً رغم العذابات, لكن برغم هذه المُبشّرات أشعر بغصّة كلما طرح
موضوع ناشطي الداخل و الخارج والتمايز غير اللائق الذي يحصل كلما حاول طرف ما
تفضيل ناشط الداخل عن ناشط الخارج والعكس صحيح, وكأن هؤلاء واولئك ليسوا شعباً
واحداً وينتمون لوطن واحد, فرقتهم الطغمة ذاتها لظروف نعيشها جميعا. والضد يُظهر
حسنه الضد, فكيف بك بمرادف الثورة ونظيره ومثيله بين الداخل و الخارج.
كنت أحدث أحد الشباب ذات مرة حول العمل السياسي والحراك
الدبلوماسي المطلوب, وتحركات ناشطي الخارج وقدرة وصولهم لدوائر اتخاذ القرار
والمؤسسات الدولية بحكم حيوية حركتهم وتمكّنهم من الانتقال وباركت همّتهم
واجتهاداتهم, فصرخ بوجهي صرخة مدويّة ظننت بسببها أنني قلت كفراً او نطقت ضلالاً
فاستغفرت الله ثم قلت له خير يا صاحبي انقذني بربك, ما الزلّة؟ فقال لي مغاضبا
مغتاظاً: عن أي خارج تتكلم؟ عن خارج الفيلات و المكيفات والراحة والدعة والأولاد
والنزهات والدولارات بينما الداخل يعاني ما يعاني من انقطاع الماء والكهرباء بدون
طعام ولا دواء تحت نيران القصف ورعب الشبيحة, الخارج كلهم خونة غشّاشون فلا تحدثني
عن تحركاتهم فالداخل وحده يمثلني. انتهى كلامه, نظرت إليه نظرة مُشفق حيال تفكيره
السطحي وجوره في الحكم على الأشياء ثم قلت له باسما: انتهيت يا صاحبي من كلامك
واكتفيت؟ فاجابني بنعم, قلت له: اذن فأجبني بربك عن اسئلتي واعلم أنني لن اطلب منك
غير ذلك؟
منذ متى تُعارض هذا النظام؟ قال: منذ أن بدأت الثورة.
قلت وأين كنت من قبل؟ قال: كنت في جامعتي- في سورية- أدرس وأجتهد. قلت وكيف كنت
ترى سورية حينذاك – أي قبل الثورة – قال: كنت أتذمر من الوضع المعيشي الصعب لكن لم
تكن في اليد حيلة, وكنت أتابع قناة الجزيرة لأطفئ نار الغضب في نفسي حين أتابع
برامج سياسية كبرنامج الإتجاه المعاكس حتى لو تحدث عن ماليزيا. سألته: هل سمعت
بسجن تدمر أو سجن صيدنايا آنذاك او حدثت إخوانك وأصدقائك عنهما؟ قال: لا ومن كان
يجرؤ على فعل ذلك لكن والدي حدثني مرّة عنه ولم يُعدها خوفا عليّ وعلى إخوتي.
سألته: وماذا كنت تعرف عن تاريخ سورية قبل انقلاب حزب البعث؟ قال: ما درّسنا إياه
أرباب التعليم الموجّه من أنها فترة انقلابات ومصالح شخصية امبريالية, استدركت
مستفهماً: هل هذه هي الصورة الوحيدة التي كانت تسيطر عليك حينما تفكر في هذه
المراحل: قال: اي نعم وسكت. سألته: ماذا تعرف عن معارضي الخارج: قال هم مجموعة من
المنتفعين الذين ليس لهم همَ سوى ركوب موجات التغيير والظهور على الإعلام وكأنهم
أبطال مخلّدون, قلت له: يا صديقي لست أنكر أن منهم من يفعل ذلك, تماماً كما يفعل
بعض أهل الداخل, أليس كذلك؟, قالها مع تمتمة وغمغمة: نعم, لم أُعر لتمتمته بالأ
واستطردت متابعاً حديثي.
ألا تعلم يا صديقي أن كثيراً من معارضة الخارج الذين
تتهمهم بدون دليل تُحاجج به ربك يوم القيامة اذا ما سألك عن اتهامك هذا, ألا تعلم
أن كثيراً منهم ترك بلده الحبيب مذ كان شابا يافعاً تتطاير أحلامه بدراسة و زواج
وبناء بيت وشراء سيارة وتغيير وإصلاح وعائلة و أطفال بين أهله وخلاّنه وأحبابه
وعلى تراب وطنه؟ ألا تعلم أن كثيراً من هؤلاء الذين تتهمهم بالتسلق حيناً وركوب
الموجة حيناً ركبوا موجات الخطر مرّات و مرّات بين عذابات سجون لم تذق طعمها يا
صاحبي لأنك كنت في صرّة تنهل من فيض حنان والدتك و والدك, وكم تسلّقوا كهوفاً و
جبالاً ومغارات هرباً من ضباط المخابرات وطائرات الهليكوبتر ورشاشات المدافع حينما
كانت تهاجم بيوت أهاليهم ليلاً فتكشف المستور من أعراض أخواتهم وأمهاتهم وتسرق
الخيرات التي جمعها رب الأسرة عاماً فعام ليزوّج بها أولاده أو يبني لهم بها بيتاً
يحجبهم السؤال فذهبت جرّاء جشع هذه الطغمة الفاسدة الموغلة في الفساد, كم منهم من
طلاب طب وهندسة ومحاماة وقانون وأدب وفلسفة لم يُكملوا دراساتهم بسبب مواقفهم
السياسية من نظام الأسد وخروجهم في مظاهرات تُندّد بهذا النظام وتطالب بإسقاطه
بينما كنت يا صاحبي تُلقي بالكرة فرحا مزهواً بنفسك أنك بدأت تملك القوة لتقذف
بالأشياء وترشق الناس بالحجارة, إن من بين هؤلاء من عاش حياة الفقر في وطنه سنينا
ضاقت عليه الدنيا بما رحبت ورغم ذلك لم يُذل نفسه لنظام يقمع إخوانه في زمان كثر فيه
شراء الذمم وكتابة التقارير فصار بعض من كنا لا نسمع لهم حسّاُ سيداُ بين الناس
مُترفاُ بين أقرانه شديد التنعم والثراء, فكان أن اضطر ذاك الفقير العزيز أن يترك
وطنه ليعيش حراً وللحرية غرامة كبيرة لم يدفعها أمثالك إلا اليوم يا نديمي. ومن
بين من اتهمت من غير بيّنة ولا دليل من عاف دثاره وهجر زوجه وابتعد عن أرضه أو
عمله أكثر من ثلاثين عاماً لا يستطيع الإياب ليدفن أمه ولا يستطيع القفول ليزرع
أرضه ويُمنع من الرجوع بفعل قانون استبدادي ليُكحل عينيه المثقلتين بمناظر بلده
كما تفعل يا صاحبي كل صيفية فتقطع تذكرتك وتُحزم حقائبك وتأخذ أول باص متجهة للشام
أو حمص أو إدلب فتجوب الشمال و الجنوب والبحر والبرّ. هل أتابع يا أخي أم أمسك؟,
لم يجبني صاحبي لأنه كان يمدّ يديه لجيب قميصه ليخرج منديلا يمسح بها دموعه بصمت.
ولكن برغم ذلك كله يا أليفي وكثير من القرائن التي لولا
التطويل لذكرتها لك بالتفصيل, وبرغم سابقتهم في معارضة النظام والخروج عليه وتذوّق
الأوصاب و البأساء والتنكيل و الأوجاع في سبيل استحضار معاني الحرية وظهور الحق في
سورية, برغم ذلك كله نقول ويقولون: الداخل يمثلنا
فداء السيد 4 -7-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق