لم يعد الأمر في بلادنا، كما عهده الشعب منذ عقود، فقد أشرقت بالثورة شمس الحرية وبدأت تذوّب ظلمة الأرض المستعبدة، واقترب مصير الطغاة من نهايته، وأصبحت أنظمة الاستبداد
ومنظومتها على هاوية السقوط . والأفضل لمن مازال يثرثر في قوقعة
الثقافة الاستبدادية، ويضع الثورة في ثقب النظريات العقيمة والباهتة أن يصمت.
الثورة كسرت كثيراً من الحصار المفروض على النفس والروح والعقل والإرادة
وأسقطت قوالب التنظير والتيئييس والتحليل التقليدي الرتيب. ولم يعد كثير من
المثقفين الباحثين عن سلطة وسيادة ونفوذ ، بقادرين على قيادة الشعوب الناهضة في عهد الثورة
تحتاج أمتنا الآن إلى قيادات ثورية نزيهة نابضة بالفعل والشجاعة والإقدام، ومؤمنة بكرامة الحياة ومتسلحة ببصيرة واقعية، وإلى فريق ساسة أذكياء عمليين شرفاء غير مصابين بأمراض النرجسية والفئويّة والحزبية والانقسام. لم يعد ممكناً الاستمرار بقبول هيمنة المتكلمين والمنظرين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين الذين يريدون تطبيق النظريات الغربية والشرقية والجنوبية التي تعلموا في ظلها وعاشوا من معلباتها على الحالة السياسية والثقافية في أطر التبعية.
المثقفون طاقة عظيمة
للتطوير والنهضة، لكن للأسف، لايمكن لجموع مثقفينا اللامعين تحت
الأضواء الإعلامية والسياسية ، أن يتولوا، الآن، أمور قيادة هذه الأمة. فمهمة
المثقف الأساسيّة في عهد الثورات هي التنوير والإصلاح والتطوير والتحرير واستباط
النظام الفكري الأسلم للواقع، وهؤلاء لم يخرجوا بعد من موروث الهيمنة الفكرية
والاستبداد الثقافي، ومازالوا يهدرون جهودهم وجهود الأمة في التقاتل التناحري
الحزبي والفكري، بعيدا عن احتياجات الواقع، وفي السعي إلى الهيمة بما يناقض الحق والعدل وتكافؤ فرض الحرية.
مازلنا حتى هذه اللحظة
الممتدة من زمن قمعي طويل، ننتظر قيادات ثوريّة. وحتما هي في مخاض الولادة ؛
فالمشروع التحرري الثوري ينتج قيادات ثوريّة بارزة تتجذر في كل المجالات، خصوصا كردة فعل إيجابية على مافقدناه طويلا من حرية الرأي
والتفكير تحت سقف الدولة الاستبدادية وما أفرزته من قمع ودونية وتشتت
واستعلاء. نحن الآن في طور تأسيس فكرنا الثوري ودولتنا الجديدة. ولابد من قلب
الموجود السائد في معظم الأمكنة. وهنا يأتي دور الثوار الأحرار الشرفاء الذين لا
تستعبدهم شهوة السلطة المريضة وإشكاليات المذاهب الفكريّة والحزبيّة والعرقية وتبعية الولاءات ليقوموا بقلب الموجود.
الثقافة التقليدية الداخلية أو الوافدة لن تفي بالغرض الثوري ،
بل قد تضرّ وتسيء، خصوصا، ثقافة مقاهي الثرثرة الفكرية التعصبيّة وفرق شبيحة الشلل الحزبيّة، بمثقفيها المخمورين بعولمة الفوضى وتلوين الانتماء ونرجسية الأنا. هناك فرق
بين فكر المثقفين الحالمين الذين فقدوا الصلة بطبيعة الواقع والمأزومين بجدل قضايا
الهوية وخطاب الديمقراطية، وبين فكر القادة والثوار الأحرار المرتبطين بالأرض
والناس والتضحيات وصناعة الهوية. نحن بحاجة ماسة إلى قادة حقيقيين لا أصحاب كراسي
وأندية ومواقع.
لدينا كثير من المثقفين
ولسنا نحتاج لهذا الكمّ الكبير من المثقفين المنظرين العاطلين عن الإنتاج ، نحتاج
إلى قيادات تعمل . وإنّ دور المثقفين الذي أعطي لهم خلال القرن الماضي بدعم من
الأنظمة أو من الغرب هو من اسباب الخواء الثوري والفكري، وخالة الاستصغار والتذلل؛
فقد كان الهدف منه تفريغ المجتمع من القيادات الوطنيّة الثورية التي تخدم اللمجتمع
والشعب والأمة. والدليل: نحن لدينا جيش من المثقفين والمنظرين في الداخل العربي
وفي الخارج الاغترابي، لكن، بلا فعل ثوري واسع فعّال أصيل. بل يهرب المثقفون من مواجهة
المشاكل الحقيقية ومن تسميتها باسمائها إلى استعارة أفكار جاهزة و نماذج اغترابية اجتزائيّة تبعدهم عن الصراع الحقيقي الواقعي. كما تظهر متناقضات كثيرة بين
المثقفين الذين تحجّرت أفكارهم، وتدور بينهم صراعات حادّة بلا فائدة، وتجري على
ألسنتهم وأقلامهم أحكام راسخة ومسبّقة، وتنتشر الإقصاءات. وذلك كلّه لا ينفع الأمة
والوطن، لأنه عبارة عن متناقضات في المصالح ومتناقضات في الرؤى،
وعبارة عن تمزيق روح التواصل الوطني وتشتيت العمل المفيد
وانسلاخ عن التاريخ. .
تشح الساحة بقيادات جامعة، بل يكاد المجتمع العربي، حالياً، يخلو من القيادات الشعبيّة ذات الخبرة الفاعلة الحكيمة؛ فقد جرى العمل على تفريغه من القيادات
الحقيقة بالقتل أو السجن أو التشريد أو الإحباط أو الإشغال السلطوي؛ لكن الثورة والعمل في ميادينها أخذا يبنيان بالتجربة
والمعاناة والدم المناخات والظروف الجديدة لخلق القيادات المهمة وإبداعها وإطلاقها.
والشعب يدرك ذلك بالفطرة، ويعمل عليه فلا يصعي في حركته لمقولات كثير من
المثقفين والأحزاب البائسة. بقدر إنصاته لرجال الثورة ولأبناء الواقع التحرري ولمن يغمل جادا وصادقا على حماية ثورة الحرية
والكرامة
الأمّة تنجب قياداتها عبر التاريخ من خلال تراكم الخبرة و فعل النّضال
الواقعي انطلاقا من مبادىء الحرية والكرامة والعدل، ومن خلال الإخلاص الوطني والوفاء لضمير الأمة
د. سماح هدايا
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق