من البداهة
القول أن الثورة الوطنية الديمقراطية السورية ، كانت خلال الأشهر الستة الأولى من انطلاقتها
العفوية ، ثورة مدنية سلمية، لم تتوسل سوى القوة الناعمة الشعبية التظاهراتية، سبيلاً لإحداث التغيير السياسي المنشود، والانتقال بسورية من نظام استبدادي
متهالك، إلى نظام ديمقراطي حديث، باعتباره جسر العبور للدولة الوطنية المدنية (
مؤسسة المؤسسات).
لقد واجه
الشعب السوري الثائر ، النظام القاهر بطريقة عقلانية ، من خلال إعطائه
أوقات مديدة ، وفرصاً عديدة ، للتفكير في
إصلاح أوضاعه الفاسدة ، والقيام بالمبادرات اللازمة لتصحيح مساره، حفظاً للوطن من السقوط في الفوضى والفلتان
الأمني ، وتجنب الخسائر البشرية والمادية حال دخول أم المعارك معه.
لذا كان من
الطبيعي أن تصنف المراحل التي مرت بها الثورة السورية إلى أربعة مراحل متعاقبة :
المرحلة
الأولى : حين أراد الشعب إصلاح النظام ، من خلال سلوك
سبيل الاحتجاجات الشعبية ( السلمية ، المنظمة ، المستمرة ) لرفع الغطاء الشعبي عنه
(الشرعية السياسية).
المرحلة
الثانية : حين أراد الشعب مرحلة انتقالية على قاعدة رحيل
النظام خلال مدة زمنية محددة ،
تتضمن إجراءات عاجلة ، بضمانات عربية وإقليمية ودولية ، لالتفافه على المطالب
الإصلاحية العادلة للشعب.
المرحلة
الثالثة : حين أراد
الشعب إسقاط النظام بجميع أشكاله ورموزه ، من خلال تبني إستراتيجية العصيان
المدني السلمي ، لاستكمال إسقاط شرعيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
والإعلامية والدبلوماسية ، من خلال عصيان تام لجميع سلطانه وسيادته على المواطنين.
المرحلة
الرابعة : ما يريده الشعب في المرحلة الحالية هو الاقتلاع
العاجل للنظام ، لمسؤوليته المباشرة عن تدهور الحالة الوطنية ، من خلال تبني
إستراتيجية عصيانية ذات ذراعين وطنيين :
الأول : ذراع
عصياني مدني سلمي.
والثاني: ذراع
عصياني عسكري تمردي .
لقد كان الشعب السوري يعي تماماً ومازال ، أنه في
منازلة كبرى مع نظام شمولي ( يشمل احتكاره الحياة السياسية ، والاقتصادية ،
والاجتماعية ، والثقافية ، والإعلامية ..) ،
ومصفحاً بقوة عسكرية معدنية وأجهزة
أمنية عديدة ، وقطعان شبيحة مأجورة ، لذا كان من المنطقي أن يقوم الشعب باستخدام ذراعه
العصياني المدني أولاً كإنذار مبدئي، وأن يترجم ذلك عملياً بالانشقاقات المدنية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.
إن السلطة
الحاكمة في سورية ، مازالت تمارس نوعين من العنف المزدوج ، ضد الشعب ، منذ أن
احتلت دبابات الثامن من آذار سورية الديمقراطية عام 1963.
العنف
الموضوعي : المتمثل بإلغاء الحياة السياسية ، وتأميم الإعلام ، وافتراس
مؤسسات المجتمع المدني واحتكار السلطة
والثروة ، وتفعيل قانون الطوارئ ، وإفقار الشعب ...
العنف المادي : شن حرب إبادة ضد الشعب ، من خلال حصار المدن والبلدان
والقرى ،والتي يستخدم فيها صنوف الأسلحة الثلاثة : البرية والبحرية والجوية ،
وإطلاق قطعان الشبيحة يعيثون في الأرض فساداً ( عصابات ثورية
!!!).
أما من طالب
بحمل السلاح ضد النظام منذ اليوم الأول للثورة ، لم يعقل إن إطالة أمدها سيكون
السبب الأساسي وراء انتشار الغبار الثوري ، أفقيا وعمودياً في عموم القطر، ولم
يعقل أيضاً أن الاستخدام المبكر للقوة ضد النظام كان سيجهض الثورة في مهدها،
ويبعد الكثير من شرائح المجتمع عنها ، وسيفقدها التعاطف الدولي ، وستبرز الحالة
الثورية العامة وكأنها صراعاً على السلطة ، بين زمرة حاكمة وفصيل سياسي محدد
فقط ،عوضاً عن أن تكون صراعاً بين قوى الاستبداد السلطوية والقوى الوطنية الديمقراطية كافة ، كما
هو حالها في الوقت الراهن.
إن استنبات الخيار العسكري – الدفاعي
لحماية المحتجين السلميين لم يكن خياراً ايدولوجياً مبيتاً ومبرمجاً وإنما كان
خياراً واقعياً وإكراهياً ، اقتضته ردة الفعل الثورية على الفعل الدموي للسلطة
، التي أوغلت في دماء السوريين ، وفرضت على شرفاء الجيش الحر ، والشباب النشامى من
أهل المدن والأرياف والبوادي ، واجب حمل السلاح دفاعاً عن الأرواح والأعراض
والممتلكات ،ومقابلة القوة بالقوة والعنف بالعنف انطلاقاً من خنادق دفاعية في
المرحلة الأولى ، وضربات استباقية في المرحلة الثانية.
ومن الطبيعي أن
يكون الذراعان اللذان تمتلكهما الثورة الشعبية السورية (المدني والعسكري) يعملان وفق مبدأ الاعتماد المتبادل ،
حيث يعتمد كل ذراع منهما في وجوده على الذراع الأخر ففي الوقت الذي يقوم فيه الذراع العسكري بتوفير
الحماية للمدنين من اعتداءات النظام المتكررة ، يقوم الذراع المدني بتوفير الغطاء
الشعبي والبيئة الحاضنة له .
وتفيد تجارب
الشعوب التي سبقتنا في الانتقال الديمقراطي ، أن الاعتماد على العصيان المدني
السلمي لوحده ، كان كافياً لإسقاط
الأنظمة الشمولية في بلدان : أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والفلين وكوريا
الجنوبية وتونس ومصر واليمن، في حين أن الذين عولوا على التمردات العسكرية أو
الثورات الأيديولوجية والطائفية ، لم يجلبوا لشعوبهم سوى المزيد من
الاستبداد وخراب العمران ، وذلك في كل من : روسيا
لينين ، وصين ماوتسي تونغ ، وكوريا الشمالية لكيم إيل سونغ ، ويوغوسلافيا
تيتو ، وألبانيا خوجه ، وكوبا كاسترو ، واليمن الجنوبي المتمركس ، وكمبوديا بل بول
ـ وإيران خميني .
في حين أن
الشعوب التي أخذت بالنضال الثوري المزدوج لإسقاط الأنظمة الاستبدادية ، وأعطت
الأولوية للعصيان المدني السلمي ، على العصيان العسكري التمردي ، وزاوجت
بينهما فيما بعد، ولم تترك أحدهما يطغى على الأخر، هي الشعوب التي استطاعت إسقاط أعتى
الأنظمة الاستبدادية ، ووصلت البر الديمقراطي ، والمثال الأبرز هو التجربة الثورية
للساندنست في (نيكاراجوا) التي استطاعت قواها الوطنية الديمقراطية المتوافقة ،
إسقاط نظام (سوموزا) الدكتاتوري عام 1979.
ومن إحدى الكبائر
الثورية هو تحميل الذراع العسكري الدفاعي ، ممثلاً بالجيش السوري الحر وحده
مسؤولية إسقاط النظام ، وتحميله فوق ما لا يحتمل ، والهروب من المسؤولية الوطنية
المدنية ، لذا كان استمرار مساهمة الذراع المدني ممثلاً بالمواطنين المدنيين في
تحمل مسؤولياتهم في تفعيل تبنيهم لإستراتيجية العصيان المدني إلى حدها الأقصى ، واجباً
وطنياً ملحاً ،غير قابل للتأجيل أو التبرير البتة ، حيث هم من بدأ الثورة ، وهم من
يمتلكون الأدوات الوطنية الداخلية بأيديهم ، والقدرة اللازمة على تجفيف موارد
النظام المعنوية والمادية ، حيث إن النظام لا يستند إلى القوة العسكرية النارية
فقط في هيمنته على الحياة الوطنية ، بل يستند إلى منظومة متكاملة في
السياسة، والاقتصاد ، والمالية ، والاجتماع ، والثقافة والإعلام ، حيث
إن تركيز الهجوم الشعبي عليها، سيؤدي حتماً إلى إضعاف النظام واستنزافه وموته
جوعاً ( للمزيد : إستراتيجية
العصيان المدني طريق الشعب السوري لتفكيك النظام - فاتح الشيخ – جوجل ) ويمكن
القول أنه إذا كانت مهمة الذراع العسكري الثوري هو العمل على تحطيم البنية الفوقية
للنظام ، فإن مهمة الذراع المدني الثوري ، هو العمل على إضعاف البنية التحتية
له تمهيداً لتفكيكه ودفنه.
وخلاصة القول
: يبقى لكل شعب من شعوب العالم الثائرة تجربته الثورية الخاصة به ، لإسقاط نظامه
الاستبدادي، حيث هو من يحدد الوسائل المناسبة لتحقيق الهدف ، من خلال تشخيصه لبنية
النظام ومعرفة قابليته للإصلاح أم لا .
والسؤال / هل
ستتجه الثورة السورية صوب إقامة نظام سياسي ديمقراطي جديد عقب سقوط النظام ؟ أم أن
الذراع العسكري سيطغى على الذارع المدني ويختطف الثورة.
هذا ما سيجيب
عنه مقالنا القادم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق