وهو
يرتشف من كاس الشاي، الذي يعشقه كثيراً، وقد وضع رجلاً على رجل، وبدا كأنه يملك
الدنيا بما حملت، وجهه عليه علامات الفرح، ملامحه تدلل على سعادة غامرة، هيكله من
أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، يحكي قصة واحد، صفقته رابحة.
-
ما لي أراك لست مرتاحاً، هذا اليوم؟
-
وهل في الدنيا خبر، يجعل الواحد منّا، فعلاً يفكر في
الراحة، فضلاً عن أن يشعر بها ويمارسها؟
-
يا رجل الدنيا بخير!! وكفَّ عن التشاؤم.
-
الحمد لله لست متشائماً، ولكني أصف واقعاً بما حمل.
-
وما حمل عندك اليوم؟
-
أفكر في حوارنا يوم أمس، وأتابع شريط الفكر الغبائي،
الذي يعيشه بعض الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويرددون الكلمات الجوفاء، التي أخذوها
من وسائل إعلام العدو.
-
أوضح أكثر!؟
-
قبل أن أوضح، لا بد أن تعرفني إلى سرّ سرورك، وتبدو كأنك
ملك من الملوك..........والمشكلة، أني أعرف البير وغطاها .
-
بصراحة لقد تصالح خلدون مع كمال، وانتهت المشكلة بينهما
من جذورها، وكنت بين الحاضرين، وجزى الله الشيخ إسماعيل، خير الجزاء، لأنه صاحب
الجهد الأكبر، في هذا العمل العظيم.
-
يا رجل تتكلم بجد؟!
-
نعم وهل في هذه الأشياء مزاح؟!
-
خلدون وكمال تصالحا!!؟؟
-
نعم...نعم....وأعتقد أني أتكلم بلسان عربي واضح.
-
فعلاً إنه خبر تستحق عليه ذبيحة.
-
من ذي القرنين.
-
بل تستحق عليها بشارة، من كبشين أملحين- وهو يتنهد-:
الحمد لله...الحمد لله.... كنت دائماً أقول لهما: إن خلافكما، يؤخر النصر، أولاً:
لأن الله لا يبارك عمل المتخاصمين، والله تعالى بين لنا، أن النزاع سبب الفشل،
وحذرنا من ذلك، فقال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، وثانياً: لأن المتخاصمين
ينشغلون بأنفسهم، ويدعون العمل أو جزءاً منه على الأقل.
-
يا رجل أربكوا كل من حولهم( وصرعونا) بقيلهم وقالهم،
وهذا أمر مؤسف، ولا يجوز.
-
ولو فكرنا قليلاً، لماذا هذا الخلاف؟ وعلى أي شيء؟
-
هم يغلفون ذلك بأغلفة المصلحة العامة.
-
وربما تمادوا على بعضهم، بالاتهامات الخطيرة.
-
بل هذا يسوق إلى هذا، والشيطان، لم يمت، بل من مهامه
الأساس الحرشة بين الناس.
-
بل قل ما أسعد الشيطان!! بخصومة الناس فيما بينهم.
-
برأيك، هل كان كمال على حق؟
-
المسألة بينهما بالأصل، ليست مسألة حق وباطل، والأخوان
على جانب كبير من الفضل والخير، كما تعلم.
-
إذن لماذا هذا الخلاف؟
-
مسائل اجتهادية، هذا له رأي، وذاك له رأي، ومن كلمة إلى
كلمة، تطور الموضوع إلى شخصانية قاتلة.
-
لكن هذا كلام خطير.
-
نعم وخطير جداً، بل هو مرض قاتل، وهو أشد من أمراض
الجسد، مهما بلغت خطورتها.
-
نحن نعلم، أن خلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
-
هكذا تربينا.
-
ورحم الله الإمام الشافعي، الذي كان يقول- وهو الذي ملأ
طباق الأرض علماً-: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
-
يا سلام، هذه قاعدة ذهبية في أصول الحوار والمناظرة،
وتدل على حس حضاري من نوع فريد.
-
بل كان يقول: ما ناظرت أحداً، إلاّ وسألت الله أن يجعل
الحق على لسانه، وأن يلقن الله مقابلي حجته.
-
الله...........الله!!! إيش من بشر هؤلاء؟؟؟
-
هذا إنسان أوصلته تربيته المعرفية والسلوكية، غلى أن
الوصول إلى الحق والصواب، هو الغرض، سواء أكان على لساني، أم على لسان غيري.
-
أما المرضى!!
-
فهؤلاء تعودوا على إثبات الذات وتضخمها، لا يبحث إلاّ عن
نفسه، في معارك يصنعها، ويكبر الشيطان له الأمر في رأسه، فيدور في فلك ذاته،
ودائرة نفسه، لها يصول ويجول، ومن أجلها يحب ويبغض، وفي سبيل نصرتها، يسالم
ويخاصم، فلا هم له إلا (ست نفوس)، التي بين جنباته، وملكت عليه كل جوانحه، وخلجات
نفسه.
-
من هنا اهتم العلماء، بتزكية النفس، وركزوا كثيراً على
مسائل التجرد.
-
المتجردون عن الغرض والشهوة، في كل مصر وعصر، هم ثمار
الخير اليانعة، وبرامج الأمل الناجحة، ومشاريع الفضل الفالحة.
-
رحم الله الكيلاني والقرافي وابن القيم وابن تيمية
والشاطبي والعز بن عبد السلام، وأمثال هؤلاء الأفذاذ الذي استخلصوا لنا جواهر
الخير في التربية، من مصادرنا الأصلية، خصوصاً من الأصلين العظيمين، كتب الله،
وسنة نبينا- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه-.
-
ذكرتني بابن تيمية- رحمه الله-، وهو يقول رداً على من
غضب من خلاف في اجتهاد( وهذا مذهب يسوغ الاجتهاد فيه، لكن ذلك القول أحب إلينا
وأحسن).
-
يا للروعة!!! ما هذا الرقي الحضاري العظيم.
-
الأمة خاصة، والناس عامة، بحاجة ماسة، لإتقان فقه الخلاف
وآدابه، وفرد أو جماعة أو أمة لا تجيد هذا المعنى، فقد تودع منها.
-
هل تدلني على كتاب، يؤصل لهذه المعاني؟
-
نعم أدلك على كتابين.
-
وهو يخرج القلم من جيبه، ويفتح دفتره الصغير الذي اعتاد
اصطياد ما يرى حسنه وروعته: الأول.
-
( أدب الاختلاف) للدكتور العلواني.
-
والثاني.
-
( الصحوة الإسلامية، بين الاختلاف
المشروع، والتفرق المذموم) للدكتور القرضاوي.
-
ورغم هذا فالإنسان ضعيف، ومعرض للخطأ، ولكن التذكير طيب،
والإصلاح بين الناس، أمر لازم، والحمد لله على عودة المياه إلى مجاريها، بين
إخواننا خلدون وكمال، ونسأل الله، أن لا تعود تلك الأيام، ويبقى الود والصفاء
والإخاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق