وأصابت
المجزرة الناس بالصدمة والذهول" ففي 25 آب من عام 2012 م. ارتكبت عصابات
الطغيان الأسدي التي تحتل سوريا مجازر ضخمة في منطقة داريا، ذهب ضحيتها المئات من
المدنيين الأبرياء، أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا". ثمّ أصاب الناسَ ذهول ٌ أبشع وأشد، عندما شاهدوا في موقع الجريمة عبر شاشة الطغيان مذيعة شابة مجردة من القلب ، يتمثّل
في شخصها الحقد والشماتة، تتنقل برشاقة أمام
الكاميرا وسط المقتولين في المجزرة، وهي تمسك
بمكبّر الصوت لترصد شهقات موتهم الأخيرة. كانت المذيعة ترتدي فوق وجهها الذي تيبّست ملامحه
قناعاً من الابتسامة البلهاء القاسية، ولؤما شاحباً ممزوجاً بحقد غبي. وكانت
تسأل امرأة من ضحايا المجزرة مذبوحة ملقاة
على الأرض، تلفظ أنفاس مأساتها: "سيدتي.
أخبري الجمهور. من هو الذي قتلك؟"
المرأة لم تجب. فعادت تسألها
بإشفاق مصطنع :" سيدتي من هو الذي هجم كالوحش عليك وقتلك؟"
المرأة، تحت صدمة الموت بالقتل الفجائغي، ردّت
بصوت خافت متقطع: "لا أعرفهم. "
وألحّت المذيعة بالسؤال"سيدتي: لماذا قتلوك؟ من هم؟"...لكنّ
المرأة فقدت وعيها، قبل أن تجيب. فقالت المذيعة:" حسنا يبدو أنّ السيدة المغدور
بها فارقت الحياة. المتشددون الإرهابيون القادمون من الصحراء هم الذين قتلوها".
قبل أن تستمر المذيعة في لقائها الصحافي
مع المقتولين والمحتضرين، أشارت إلى طفل صغير مازال يتنفس ويئن. "يبدو
أنهم قتلوا ابنها أيضاً". ثمّ وتابعت طريقها بلا مبالاة، تدوس بأقدامها دماء
الضحايا، وتمثّل مسرحيّة التهكّم والاستعلاء، وتركت الكاميرا تكمل ممارسة إهانة
المحتضرين والمذبوحين؛ فتعرض جثثهم، وتعرض صور العيون التي مازالت تنبض باستغاثة الحياة
وهي تستنجد وسط ركام الدماء باحثة عن أم أو أب او ابن او أخ أو صديق.
وأخيراً، أقفلت المذيعة سبقها الصحفي الذي هيأته لها
عصابات الإجرام الأسدي، وختمت لقاءها
بتألم سادي متغطرس"آسفة أصدقائي
المشاهدين، وأصحاب القلوب الرقيقة. إنّها حقاً صور مروعة لجرائم ارتكبتها عصابات أصولية
سلفية قاعدية إرهابية تتفنن بقتل الناس.
ونحن نعرضها في شاشتنا ليس لإزعاجكم، بل للتوثيق
في ذاكرتكم. لكنّني أنتقل بكم الآن إلى
أجواء أخرى لطيفة، وأترككم تستمتعون
بمشاهدة أهلنا من هنا وهناك وهم يبتهجون، ويردّدون ما يحفظونه من الأشعار والأغاني
الجميلة في احتفالهم باليوم الأول من عيد الفرح السنوي؛ وربهم
يتجلّى لهم فرحا، ويخلدون ذكرى إطلاق دعوتهم المجيبة.".
وهكذا...أمام جبروت قسوةٍ كهذه القسوة، يفقد
العقل القدرة على التفكير؛ فيكاد شعب يتكسر، وتكاد مأساة مروّعة متكرّرة، تطوّح
بالأمل واليقين..فما الذي يمنح هذا الشعب
القدرة لينبعث من موته الدموي ويقوم ليحيا؟ إنها إرادة الحرية التي لا يمكن
قهرها؛ لأنها الحياة. وهي أقوى من الوجع
والموت والغضب؛ فلا سقوط في وحل اليأس والهزيمة، عندما يرعد صوت الحرية في كل
مكان.
صوت الحرية هو الذي تلبيه الشعوب العظيمة على
الرغم من العذابات والأوجاع. وإرادة الحياة تخاطبنا لنصمت بخضوع ونركع بخشوع لإرادة الله فينا عندما نكون أحرارا، أو قرابين حريّة وكرامة. نعم من
حقنا ان نبكي، وأن نتألم. فالألم في عصر الموت القسري مشعل حرية، وردّة على الموت بالحياة. والدمع غسل الأحزان. وفي الأغلب، يشتد الألم في المخاض باقتراب
الولادة. فلنتألم، لكنْ، من دون أن نستعذب
جلد الذات، ومن دون ان نستسلم للأوغاد، أو نستجدي من الأنذال الرحمة والخلاص.
الاستسلام بعد كل هذا السخاء بدماء الشعب هو
خيانة للدماء وهدر مسرف للآلام، وإشهار بمزيد من المجازر فينا. فالقروش المتوحشّة
تزيدها وحشية رائحة الدماء وتثير جنونها كيمياء الخائفين. إنّ الألم الذي آلمنا
بشدّة، هو نفسه الذي سيؤدي إلى النصر والفرج؛ لأنّه ثمن الحرية. والحرية ثمنها
باهظ. وعليه. فإنّ الذين ماتوا سحقا وقتلا تحت أقدام المجرمين والطغاة من عصابات
الأسد. كانوا يخطون بدمائهم، عن وعي وقصد، أو من دون وعي وقصد، فرصة الحياة لنا،
ويفتحون بوابات الحرية. ويحفرون، عميقاً في الأرض، بصرخات أوجاعهم المدويّة جذورا
لنخيل كرامتنا وكبريائنا؛ فهل نخونهم بالاستسلام والرضوخ لذل النظام الطاغي
العنصري وقهره.
علينا أن نفعل الكثير لأجلهم. وأهم مانفعله لهم،
هو التخلّق بالشجاعة ومتابعة النضال بصبر
وعزم وتعاون لتحقيق حريتنا وإعلاء حقنا وكرامتنا.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق