حتى نجيب على هذا السؤال، لابد أن نعرف
لماذا تمت المباركة الدولية على استمرار هذا النظام لأكثر من اربعين سنة، بالرغم
من المجازر الغير مسبوقة التي ارتكبها بحق الشعب السوري والتي طالت أيضاً
الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين.
لابد أن نعرف
أولاً أن ضمان أمن وسلامة إسرائيل على أرض الواقع هو العامل الأول والأهم الذي
يحدد مباركة الغرب خصوصاً والعالم عموماً لاستمرارية أي نظام في منطقتنا لهذه
الفترة الطويلة، بغض النظر عما يجري ويقال في وسائل الإعلام. وكيف يمكننا إنكار
ذلك وإسرائيل هي الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة، والمدعومة من أمريكا الدولة
الأقوى عسكرياً في العالم؟ ويمكننا إيجاز الخدمات التي قدمها نظام الأسد (الأب)
لإسرائيل بخمسة أسطر:
تسليمه الجولان عام 1967 دون معركة حين كان وزيراً
للدفاع. المساعدة على إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970 أثناء أحداث
إيلول الأسود حين منع سلاح الجو من الاشتراك في الأعمال القتالية مع القوات البرية.
إرتكاب مجزرة مخيم تل الزعتر في لبنان لكسر شوكة المقاومة الفلسطينية وترويضها عام
1976. بعد فشله بترويض المقاومة الفلسطينية في لبنان، قام بالتعاون مع إسرائيل عام
1982 على إخراجها من لبنان إلى تونس أثناء الغزو الاسرائيلي.
وقد تمت
مكافئة هذا النظام بالسماح له بتمثيل مسرحية (حرب تشرين) عام 1973 لاعطائه مسحة من
الشرعية والشعبية سورياً وعربياً، ثم بالسماح له باحتلال لبنان. وكذلك بغض النظر
عن أبشع مجزرة ارتكبها نظام بحق شعبه مابعد الحرب العالمية الثانية، وهي مجزرة
حماة التي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف مدني خلال أيام. ومن هذه المجزرة بالذات
يمكننا قرائة مدى تمسك (الغرب) بهذا النظام واعتماده عليه لتأمين مايسمونه هم
(بالاستقرار) في المنطقة ومايعنون به في الواقع (استقرار) أمن وسلامة إسرائيل، حتى
وإن كان ثمن ذلك عشرات الآلاف من أبناء الشعب السوري وجيرانه من العرب. طبعاً لابد
من الإشارة هنا أيضاً أن أحداً لم يشجع هذا النظام على ارتكاب تلك المجزرة أو
غيرها، فلا أحد ولاحتى الديكتاتور نفسه، يرغب بارتكاب مجازر وحشية كهذه تفقده صورة
(الأب الحنون المحب لأبناء شعبه أو الأم تيريزا). ولكنه وحين يجد نفسه مضطراً
لذلك، فهو لايتردد بارتكابها، وهنا ينظر الغرب إلى فائدة هذا النظام بالنسبة له،
فإما أن يرفع له بطاقة (حقوق الانسان) الحمراء، وإما أن يجد له المبرر أو الغطاء
لهذه المجازر كأن يقول أنه لايوجد براهين قوية ودامغة عليها كما يفعل عادة مع
المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
إذاً فهمنا
الآن لماذا الغرب وإسرائيل (يعشقان) نظام الأسد ولايريدان التخلي عنه، ولكن ماذا
عن (المعسكر الشرقي)؟ لقد منح هذا النظام روسيا، وريثة الاتحاد السوفيتي، مالم
يمنحه نظام آخر، لافي سورية ولا في الشرق الأوسط. منحها قاعدة عسكرية دائمة على
البحر الأبيض المتوسط (في طرطوس) طالما حلم الروس بها منذ أيام القياصرة. كما أن
النظام جعل من نفسه الزبون (الأدسم) لتصريف الأسلحة الروسية الكاسدة والمتخلفة
التي عفا عنها الزمان. ثم أضاف لها (الصين) في ثمانينيات القرن الماضي كمزود ثان
بالأسلحة التي ليست أفضل بكثير من تلك الروسية ولا من البضاعة الصينية الغير صالحة
للاستعمال لأكثر من مرة واحدة. وقد فعل الأسد الأب ذلك بعد أن بدأ الاتحاد
السوفيتي بالتفكك والافلاس العلني وبدأت إدارة (غورباتشيف) والادارات التي تبعتها
بمطالبته بسداد ديون صفقات الأسلحة السابقة. ولكنهما عادا بعد ذلك واتفقا على
التعاون معاً لسرقة وهدر أموال الشعب السوري.
طبعاً لاداعي
هنا لشرح لماذا يعشق (ملالي إيران) النظام السوري، فهذا واضح للعيان. ويكفي القول
أن النظام قد قدم لإيران خدمات جلى لم تكن تحلم بها من قبل. فهو سمح لها (بتصدير
ثورتها) إلى الدول العربية المجاورة عبر سورية، وهذه خدمة سياسية طالما حلمت بها.
ولكنه قبل ذلك وقف معها علناً خلال حربها مع العراق ثم سمح لها باقامة (قواعد تدريب
قتالية) في سورية، وهذه خدمات عسكرية. وأخيراً سمح لها بارسال حملات (التشييع)
التي اعتقدت أن بامكانها تشييع الأغلبية السنية في سورية وعلى العلن، وهذه خدمة
دينية طائفية لم تعرف سورية مثلها منذ حملات القرامطة في القرن العاشر الميلادي.
أما لماذا
يريد (الأتراك) هذا النظام، فأيضاً من السهل فهمه. فالأسد الأب تخلى لهم رسمياً عن
(لواء اسكندرون) وساعدهم بالتنسيق مع إسرائيل والغرب بالقبض على زعيم حزب العمال الكردي
الشيوعي المعارض (عبد الله أوجلان) بعد أن
طلبوا منه مغادرة سورية عام 1998. ثم أتى الابن وفتح الحدود الشمالية للبضائع
التركية لتمر إلى سورية وباقي دول العالم العربي وفق اتفاقيات إقتصادية أقل مايقال
فيها أنها غير متوازنة وليست لصالح الاقتصاد السوري. بالاضافة لذلك، فقد أعطى
الأتراك أهمية خاصة كلاعبين إقليميين بتوكيلهم بمهمة ظاهرية تتلخص بالتوسط مع
إسرائيل فيما دعي بمحادثات السلام بين الطرفين.
وأخيراً نأتي
إلى (الأنظمة العربية)، فكل واحد منها أحب أو تقبل النظام السوري بسبب المعسكر
الذي يتبعه كل منها، غربياً كان هذا المعسكر أو شرقياً أو إقليمياً، بالاضافة لتلك
التي تجمعها معه مصالح (قذرة) متبادلة. أما على الصعيد الداخلي، فشرائح الشعب
السوري التي بقيت تقف مع هذا النظام المجرم، بالاضافة لتلك التي تجد مصالحها معه،
فهي أيضاً تلك (الغبية) التي مازالت تصدق أنه (المقاوم والممانع) أو أنه (آخر قلاع
القومية)، أو أن الحاكم هو (الرب).
هذا التقديم
يؤدي بنا إلى نتيجة على جانب من الخطورة، وفيها الاجابة على السؤال الذي ورد في
عنوان النص: وهو أن كل حكومات العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً تحب أو تؤيد استمرار
النظام السوري. أما الجهة الوحيدة التي لاتريده، بل تكرهه، فهي الشعب السوري نفسه
وبغالبية أطيافه (ماعدا تلك المستفيدة منه أو المشاركة له باستعباد وقتل الشعب)
وكذلك الشعوب العربية التي تلظت بناره مثل الشعبين اللبناني والعراقي. وهذه الحقيقة
التي يعرفها كل العالم لم تكن ذات أهمية قبل اندلاع الثورة، إذ لم يكن أحد يقيم
وزناً لما يريده أو لايريده الشعب السوري مادام هناك دبابات يمكن للنظام أن
يستعملها لدهس معارضيه. ولكن هذا التقديم للحالة السورية يؤدي بنا إلى سؤال لابد
من الاجابة عليه وهو: إذا كان كل العالم يحب هذا النظام ويرغب باستمراره، فلماذا إذاً
وصل إلى ماوصل إليه الأمر من محاصرته وقطع العلاقات معه وفرض العقوبات الاقتصادية
عليه وتهديده بالحشود العسكرية على حدوده؟ الجواب في غاية البساطة، وهو أن النظام
هو من أوصل نفسه بنفسه إلى الوضع الذي نراه عليه اليوم. فالدول الغربية التي لديها
أنظمة ديمقراطية، لديها هامش محدود من المساحة التي تستطيع أن تتحرك فيها لدعم نظام
ديكتاتوري دموي كالنظام السوري. ولهذا نرى أن الدول المتبقية إلى جانبه اليوم هي
تلك التي لاتقيم أي اعتبار لأراوح البشر وتعامل مواطنيها بأسوأ مما تعامل
الحيوانات، وهي الدول مثل إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها.
فالدول
الغربية، وأيضاً الشرقية، حاولت جهدها ومنذ البداية تقديم النصح علناً وسراً لنظام
الابن أن لايلجأ لإسلوب الأب، فتكنولوجيا الاتصالات والانترنت جعلت من المستحيل
تكرار سيناريو مجازر الثمانينيات، ونصحته باجراء إصلاحات حقيقية كانت من الممكن أن
تجنبه ماوصل إليه اليوم. فكلنا تابعنا كيف بحت حجرة التركي واهترأ حذاء القطري
ونبت الحشيش على لسان نبيل العربي وأعيت الحيلة الأوربي وعجز الأمريكي على أن
يتجاوب الرجل مع ندائاتهم ومناشاداتهم وتأكيداتهم له بأنهم حريصون على بقائه أكثر
منه، فلا مصلحة لأحد بالتخلي عن نظام مهمته تنفيذ المهام القذرة ويوفر على الآخرين
توسيخ أيديهم بها. ولكن ولما فهم الغرب والشرق معاً ومن يدور في فلكهما أن لاحياة
فيمن تنادي، وأن الرجل لايريد أن يسمع أو يرى، تفاهموا وقرروا منحه المزيد من
الوقت والفرص على شكل مبادرات ومؤتمرات عربية وأممية ومراقبين، لعل وعسى أن يتمكن
من قمع الثورة على طريقة أبيه (وهي الطريقة التي لايعرف غيرها أصلاً). فاذا نجح في
ذلك، يتم طي الصفحة بحفلة مصالحة على طريقة (تبويس الشوارب وعفا الله عما مضى
والحي أفضل من الميت وخلافه).
ولكن وبعد
وصول النظام إلى مرحلة الجنون الكامل وارتكابه المجازر بالذبح بالسكاكين وحرق
الناس أحياء على الهوية، قرر أصدقائه من الغربيين والعرب ودول الجوار الانفضاض من
حوله والانتقال إلى المعسكر المضاد، كما بدأت الانشقاقات الجماعية من داخله من
العسكريين والديبلوماسيين ومؤخراً الوزراء بالتخلي عنه وتركه ليغرق وحده. أما
الروس والصينييين والايرانيين فقد أصروا وبغبائهم المعهود إلا أن يبقوا في سفينتة
الغارقة، وماكانوا مجبرين لفعل ذلك لو حكموا العقل وتركوه يغرق وحده عملاً بالمثل
الشائع (جنت على نفسها براقش) ولكان الشعب السوري حفظ لهم الجميل واستمر بالتعامل
معهم والحفاظ على مصالحهم التجارية والسياسية والعسكرية، ولكن ماذا تفعل لمن ليس
لديه ضمير أو عقل أو غير قادر على قراءة التاريخ.
في الخاتمة
نلاحظ أن كل العالم اليوم ماعاد يهمه المحافظة على الأسد بل المحافظة على نظامه
الأمني بسيناريو يمكن أن يكون مزيجاً فريداً يجمع بين السيناريو الليبي والمصري
والتونسي واليمني معاً. أما كيف سيحصل ذلك، وهل أن الشعب السوري المنكوب والثائر،
والذي عرف عنه قبل الثورة بأنه سيد الدراما العربية بلا منازع، هل سيسمح لغيره
بوضع سيناريو محاسبته لجلاديه وتقريره لمستقبله، فهذا ماتخبئه الأيام القادمة.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 25 رمضان المبارك 1433، 13 آب، أوغست 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق