يقفون على أطلال المأساة، ينظرون،
إلى الخراب، بعيون الصدمة الغائرة في المجهول الشاحب، حيث بيوتهم التي تراكمت أمامهم وحولهم على الأرض المحروقة
في بقايا حجارة ورمل وغبار ودماء وأشلاء وذكريات، ويحاولون الفرار من المأساة، يحملون
على عجل ماتبقى لديهم من أشلاء عائلة، ومن بقايا ذاكرة, ويرحلون إلى الشتات
والنزوح واللجوء والجوع والخوف خارج ما اعتادوا سمعه أو قراءته في هامش مدونات الإنسانيّة وفي خارطة وطن
يتداعى.
المواطنون السوريون في بلادهم يكتشفون
بالتجربة والمعاناة، ولأول مرة منذ عقود أنّ لهم وطنا، لكنْ، يأتي اكتشافهم في
مفارقة تثير هستيريا الجنون؛ فهم سيموتون من أجل هذا الوطن الذي تحييه في نفوسهم
إرادة الحرية، ويحرقه، في الوقت ذاته، الطغاة بإجرام ظلمهم وهم مصرون على أن لا حق
للشعب في هذا الوطن، ولا حق لأهله في أن يحبوه ويملكوه ويدافعوا عنه...أحياهم
أحرارا الوطن ليموتوا من أجل حياته الحرة.
وعلى مشاهد المأساة يقف
آخرون: مواطنون سوريون... يرسمون بسريالية فظيعة ألوانا غريبة من المؤتمرات
واللجان والحركات و...و... ويصنعون بأدوات فوضى وعبث، غير معقولين، مدونةً خرافية
لدولة المواطنة الرومانسية، ووثيقة حالمة زاهية لحقوق المواطن العادلة والتغيير
السلمي الآمن، بينما الوطن غارق في حمامات الدم والجوع والموت والمأساة، يتسغيث
بأهله وغير أهله، لكي ينقذوه من مصير الهلاك وواقع الدمار والقتل بإسقاط الطغاة والإطاحة
بالنظام رأسا وقاعدة، ويتعاونوا على نصرته.
ويستشهد فلان تحت التعذيب في المعتقل، وآخر
مذبوحا وثالث محروقا، وذاك مخنوقا، وهذا مصعوقا، ويظل الوطن وحيدا إلا من أحرار
أوفياء، ويقاوم الخذلان والانحطاط والإحباط. وفي طريق آخر يقف مثرثرون ومقاومون
بالانتهازية والثرثرة، مجموعات هنا وهناك من
المعارضة في الداخل والخارج، يتقاتلون في السر والعلن ويختلفون على الأرباح، ثم
يخرجون على الملأ وهم يحملون لافتات المواطنة الصالحة وشعارات الإنقاذ الوطني
والوحدة الوطنية والقصائد والخطابات الوطنية والقوميّة والإنسانيّة والعلمانيّة
والاشتراكيّة والمتدينة والمدنية، وكأن سوريا الشعب والثورة والتاريخ والوطن في
حالة أمن لا في حرب إبادة؛ فيتهمون المجاهدون
والموتى فداء الوطن بأنهم عاقون، وأبناء غير صالحين، يرفعون السلاح بدل أن يحاوروا
النظام، ويموتون من اجل الولاءات والمصالح
والشعارات الدينية المزيفة والإقصائية والبربرية، وأن على الشعب السوري أن يتعاون على التخلص منهم ومن أفكارهم ومفاهيمهم
ومشاريعهم التدميرية. وتجتمع شلة فلان وتيار علان...وتدور المحسوبيات وتتقاسم الشلل
ريع الهبات. وتمارس المعارضة السورية كل المحظورات
اللاوطنية وفق المحاصصات والاصطفافات: المذهبية، الطائفية، الشللية، الجماعاتية...ونهر
الدم السوري يزداد عمقا وعرضا وطولا.
إنّ ما فقدناه طويلا...لا نستطيع أن نعطيه
للثورة فجأة؛ فعندما يفقد المواطن عبر نصف قرن تقريبا، أهم حق وواجب في وطنه، وهو المواطنة، فكيف يمكن له
أن يمارس فجأة مواطنيته؟ وعندما يتجرد المواطن في وطنه من اعتباري الحرية الكرامة؛
فإنّ الثورات العظيمة عليها أن تمارس بقوة طحن حالة الذل والخسّة التي هيمنت على
روح الامة، مهما كلف الثمن. ومن هنا؛ فليس كل من دارت الثورة في وطنه، ومن تكلم
بالثورة ورفع شعاراتها، قد دقّت الثورة مساميرها عميقا في فكره وقلبه. فالثورة في
النهاية هي مقولة أقليّة ثائرة، تتقولب في مصنعها الجموع...ولذلك من الطبيعي أن
ترانا ونحن خارج عقيدة المعركة التحررية التي تعلي من شأن كرامتنا مازلنا نشعر
بالنقص والضياع واللاهوية. ومازال مفهوم الحرية غائبا عن الوعي، ولا يمارسه إلا
الثوار...أما السياسيون؛ فكثيرهم عالقون ببقايا مرحلة العبودية والذل والاستبداد. ومن الطبيعي أن تتحوّل في إيقاع الهذيان السياسي
وصدمة الانقلاب كثير أعمالنا السياسية إلى عبث وضجة وعجيج وصناعة نجوم ونجومية،
وإلى تنظير وصراع ديكة. ونتحوّل قطعان فوضوية تحت عناوين ثقافيّة؛ تهدر الهدف الوطني الرئيس
وتلف عليه في هوامش غير نظيفة تماما؛ لأنها مجموعات يلمعها العالم المهيمن على
مصائرالبشريّة، ويعدها لتكون في الحكومات البديلة غير المعادية له ولمشاريعه
وعقائده.... وتتشتت الأعمال إلى لجان وحكومات وتجمعات واجتماعات متشرذمة
...وتتساقط القذائف والصواريخ على المدن والأرياف، وتستهدف بيوت الناس والمزارع
والغابات والآثار والجوامع والكنائس. ويصر كل المتكلمين باسم النظام العربي
والعالمي على أنه يجب ترحيل نظام بشار، ولابد من دعم التغيير السلمي، ويجب من
ناحية أخرى إنقاذ الشعب ودعم الجيش الحر
لوجيستيا وعسكريا، لكن بعد توحيد المعارضة التي يقشرونها ويقطعونها. فالأولوية، بنظرهم، تنصب على توحيدها...والحقيقة
الوحيدة المدركة في أقوالهم ومواقفهم هي التناقض والنفاق وبيع الإعلام جرعات من
كلمات كاذبة. بينما تتابع عصابات الأسد اقتحام
الأحياء والقرى وذبح الناس وحرقهم وإعدامهم وتنفيذ المجازر، وعلى هوامش أعمالها
الوحشية تنعقد مؤتمرات ولجان وتجمعات وحوارات، شعاراتها الوطن، والهدف الحقيقي تمزيق الثورة وإعادة احتلال العقل والإرادة
واستعباد الروح وانتهاز الفرصة لإعادة احتلال الأمة والسيطرة على شؤونها عسكريا وسياسيا وفكريا ووجدانيا.
مايعلمه كثيرون، وما يجهله كثيرون
أن هذه الثورات ثورات، وأنها مشروع استقلال عن كل إرادة خارج إرادة الشعب، تقطع
مرجعياتها عن الخارج...ومن ثم قد
يبقى المتوهمون في أوهامهم والمنهزمون في
عجزهم والنجوم في ضوء الكاميرات، والطغاة في شرور جرائمهم؛ لكنّ الثوار سيتابعون وهم
منتصبو القامة حمل ثورة الحق على أكتافهم لينتصروا، غير عابئين بأقدام الظالمين
التي تعرقل صعودهم نحو قمة النصر. سينتصرون في غفلة عنهم جميعا، سينتصرون حتماً، حتى
وإن تأخر النصر أياما وشهورا. سينتصرون وسيبتهج كل الشرفاء والأحرار.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق