".....وكان أن تظاهرت
أطياف غاضبة من الشعوب العربيّة والإسلاميةّ، ورفضت عرض الفيلم المسيء للرسول،
ووصل الأمر إلى اقتحام السفارات والقنصليات الأمريكية والغربيّة وإسقاط ضحايا
دبلوماسية على رأسها السفير الأمريكي في ليبيا. وطالبت الجماهير باتخاذ مواقف جدية
من الدول التي تدعم الاعتداء على المقدسات الإسلاميّة.".
واندلعت موجة غضب أشد في وجه الغاضبين. وكان المفروض، في
تقويم الأمور وتقييمها، تجاوز ردة الفعل
إلى البحث في العلّة الكامنة وراءها لكي نحسن
القراءة. فهل نمارس الهمجيّة، ذاتها في النقد، ونتعاطى، بغريزيّة قطيعية، مع أننا
نرتدي حجاب الثقافة والفكر والنخبويّة المعرفيّة؟
بدأ الرد؛ فأعلن الغرب السياسي
الأوروبي والأمريكي، وقادة من النظام العربي الرسمي وتيارات بارزة موقفاً واضحاً، أدانوا فيه بشدة أسلوب العنف في حل الأمور
والصراعات. ووصل بعضهم، في الهجوم على الغضبة الشعبية، إلى اتهام ثورات الربيع
العربي بالهمجيّة وعنونتها بالقطيعية، وتوصيفها بأنّها استبدلت حكم المستبدين بحكم
الغوغاء. وبالغ بعض الساسة في تصعيد الموقف وأعلنوا أنهم سيقفون بشدة ضد العنف الموجّه نحو رجال السياسة
الغربيين، بل أضاف أوباما جرعة زائدة من الوعيد بتهديد الذين يتعرضون للأمريكين
وسفاراتهم..
وبالطبع أصبح هذا الخبر الأكثر سخونة والأكثر تداولا في وسائل الإعلام وأقلام
الكتابة. لكن، ليس المهم ماحدث فقط، بل المهم ردات الفعل لما حدث، وبالتحديد ردة الفعل
تجاه الموقف الشعبي الغاضب.. ولعلّ
للموضوع وجهات يجب التعمّق بها:
الوجهة الأولى: وهي المتعلقة بالضمير الشعبي الغريزي للعموم المتهم بالغوغائية... فقد حدث
تفجيره نتيجة الضعط الذي كان استمرّ طويلا، يطعن في كرامة الإنسان العربي المسلم ويذبح
كبرياء هويته. ولم تكن ردات الاستنكار العربي والإسلامي ترتقي للدفاع المنطقي..ولم
تكن كذلك بمثل ماهي عليه الآن. ومع ما يسمونه
الربيع العربي، حدث التفجير الهائل الذي قلع من ضمير الإنسان العربي ووعيه قشرة
الخوف والذل التي تماسكت عليه بغلظة عبر تاريخ طويل؛ فاصبح متطرفا في مطالب حريته
وكرامته، وصارت غريزة الرفض للمرجعيات الإذلالية تحرّكه بقوّة ومغالاة، وبشكل غير منطقيّ أحيانا. فما يصفونه من كراهية لدى
الشعوب الغاضبة، هي حالة واقعيّة متولدة من قهر دام طويلا تحت مظلة الاستعمار
والاستشراق والاستغراب. وما حصل هو تعبير عن احتقان عربي، لأنّ الغرب السياسي بالتنسيق مع أنظمتنا
الاستبداديّة التي دعمها طويلا، أصرّ على التعامل معنا على إننا إرهاب، ومهما
فعلنا، حتى لو كنا ملائكة، سنظل، بنظرهم،
إرهابا. وهذه الثورات، تسعى بعفوية، وبفوضويّة، أحيانا، لكي تلغي مرجعيّة الولاء
إلى الذل، سواء أكان داخليا أو كان خارجيّا.
الوجهة الثانية: وهي
المتعلقة بالموقف الغربي؛ فليس جديدا ما يقوم بع الإعلام الغربي من أفلام وأدبيات
وسلوكيات ممنهجة تعتدي على الحرمات
الإسلامية وتحتقرها وتستهزيء بها، وتجّذر لحضور تعصبي للآخر الإسلامي، كان له شبيه قديم تجاه آخرين،
لكن وصل ذروته العدائيّة من أمتنا في
إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين والعرب باسم الحرب على الإرهاب. بالطبع قد استنكر الساسة الغربيون الفيلم المسيء
وأدانوا عرض الفيلم ونفوا علمهم وعلاقتهم
بإنتاج الفيلم؛ لكنهم استنكروا بقوة أشد التظاهر العربي الإسلامي الغاضب العنيف من
عرض الفيلم. وسارعوا في الوقت نفسه إلى جر قوافلهم العسكرية ورجال أمنهم قرب الدول
الغاضبة من دون إذن عالمي أو أممي، تحسبا من إخلالٍ بأمنهم وأمن مصالحهم. وهنا لابد من
إثارة تساؤلين حول دور أجهزتهم الاستخباراتية والإعلامية في نشر الفيلم لمصالح انتخابيّة، أو لجس نبض
الشارع العربي بعد فيض مايسمونه الربيع العربي... وحول تواكب الاحتجاجات مع ذكرى الهجوم
والحرب العالمية التي أعلنتها أمريكا على العرب والإسلام.. بالطبع سيكون هناك توظيف
أمريكي للموضوع. وهذا يسمح في المجال واسعا لما يسمى القاعدة وهي تنظيمات انتهازية مأجورة، أكثر ضحاياها
من المسلمين، لكي تستفيد وتعيد نشاطها وفق مصالحها ومصالح من يدعمها
ويستأجرها. لأنّ هناك في المجتمع الغربي فزعا من ثورات الربيع العربي
ومن المد العربي التحرّري الذي قد يهدّد
بقوة مصالحهم النفطية والسيادية في المنطقة والخليج وقد يهدد أمن ربيبتهم
إسرائيل.
الوجهة الثالثة: وهي المتعلّقة بموقف المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين سارعوا إلى
إدانة الشارع الغاضب وإصدار الأحكام الجاهزة التي حفظها اللسان من شدة ما كررها
الإعلام العربي... قالوا كثيرا في همجية الشارع وأصوليته التي تثير الاشمئزاز وقد
وصلت إلى مرحلة القتل. ربما لم ينتبه نخبتنا إلى سأم الشارع من العبارة التي
يتسمرون في ترديدها"أعدل قضية وأسوأ محامين يدافعون عنها". فهل استطاعت
مراكز الفكر ومراكز الحوار الديني والتصالح ومراكز السياسة الدينية؛ كالأزهر وغيره
تحقيق نصر في هذا الشأن. وهل يمكن الاكتفاء بمقالبة الاعتداء والامتهان والحرب
بالحجة والفكر والإقناع والحوارات؟.
الجانب المهم في الموضوع أيضا هو موقف
الجانب الآخر، أي لجم يد الإرهاب العالمي في محاربة العرب والمسلمين ولجم ممارساته
في التغرير بالبائسن والجاهلين والمقموعين ليكونوا في منظمات مواليه لمصالحهم
يستخدمونها كما يريدون لمحاربة المد التقدمي التحرري العربي والإسلامي ويستخدمونها
طاقة تغذي حربهم على الإرهاب. وبالطبع، بالمقابل لدينا، لابد من إيجاد مظلة وطنية
فكرية وعقائدية متطوّرة وعصريّة لاحتواء المتناقضات والصراعات والانفتاح العقلاني.
الوجهة الرابعة: وهي المتعلّقة بشكل مباشر بما يحدث في سوريا من حرب إرهابيّة عنيفة ضد السوريين وهم في
الأغلب من المسلمين، الذين لم يجدوا دعما عربيا وعالميا وإسلاميا يتناسب وحجم
المعركة والضحايا؛ فيغضب المعارضون المنخرطون في الثورة والثوار ويقولون: كيف ينشغل
المسلمون بما يحدث الآن عن مجازر سوريا ومآسيها...هل يرضى رسول الله محمد(ص) بتقاعس
الأمة وتخاذلها عن نصرة حرائر الشآم والشعب السوري المذبوح؟ ويتابع آخرون في
القول: إن تصرفات الشارع العربي الغاضب الهمجي لعرض الفيلم المسيء للرسول، ستجعل
الغرب يتوقف عن دعم
ثورتنا.
بالطبع هذا الكلام له جوانب من المنطق؛ فهو ينطلق من تجربة المعاناة
الفظيعة للشعب السوري المتروك وحيدا للقتل الطائفي، لكن يجب ألا يأخذ بنا إلى
التفكير المغلوط؛ فما يجدث واقعيا أن الشعوب العربية والمسلمة مازالت تعبّر بعفوية
أكثر من أن تعبّر بمنطقيّة وعقلانية؛ فهي لم تحصل على الحرية بعد. ومازالت ضعيفة
وغير منتجة للتغيير الفكري. ثم من قال أن الدول الغربية ستساعد الثورة السورية وثوارها؟
هي مازالت تدعم النظام الذي كان حليفا
مهما لها. ومازال هناك، أقوال عن تعاون استخباراتي بينهما. الدول الغربيّة لم تقدم
شيئا للشعب السوري المذبوح حتى تستخدم ما يحدث من عنف حجة، لكي تسحبه منا. العالم يراوغ، ويسهم في فرقة الثورة بالدعوة إلى تشكيل
حكومات ومعارضات وتيارات. ومن مصلحتم ألا تتطور الأمور في ثورة سوريا وفي الثورات العربيّة.
إنّ الكراهية لدى الشعوب الغاضبة
متولدة من قهر دام طويلا تحت مظلة الاستعمار والاستشراق والاستغراب. والمفروض أن
نأتي للمشكلة من أساسها. وليس للمشكلة من نتيجتها. المشكلة في أساسها، كما أشرنا،
هي قهر الإنسان العربي المسلم وتجهيلة وإفساده وإذلاله تحت منظومة الاستعمار، وتحت
منظومة الاستبداد بأنظمة عميلة خائنة لا وطنيّة. والمشكلة في أساسها أن الموروث
الديني لم يتحرر بعد من الجهل والتخلّف والتبعيّة للفكر الاستبدادي. ويحب التذكير
في النهاية بما يرتبط بالمشكلة وهو أن الخريطة السياسية والثقافية في العالم الغربي
الرسمي مبنيّة على التآزر الكامل مع الصهيونيّة في موضوع المحرقة النازية، ولم
يعتبر العالم ذلك ابتزازا وإرهابا، بل كان الرد هو التكفير المسيحي عن الذنب
النازي بتنفيذ مشروع وعد بلفور، وتشريد الشعب العربي الفلسطيني بإسلامه ومسيحييه
وإسكان الغرباء الوافدين من جسيات العالم
كله واحتلال فلسطين. والمنظومة ذاتها
تستمر في تواطئها على العرب
والمسلمين...
وما يجب التأكيد عليه، في الخاتمة، أنّ مايحصل من صراعات جانبيّة يجب ألا يغيّب القضايا المصيرية التحريرية. بل يضعنا
وجها لوجه أمام استحقاق النهضة السياسيّة والفكرية والثقافية والعقائديّة، وأما
تحدٍ كبير مصيري لإحياء الفكر التنويري الإسلامي، والتعامل مع الموروث الديني بشكل
تثويري . الثورات العربية تحتاج إلى وقت حتى تنضج. فردة فعل الناس غير ناضجة بما
يكفي لتقييمها والحكم عليها، ولم يختمر لديها التغيير ليحقق الإنتاج الثوري.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق