في
التاريخ البشري كثيراً ما نرى الماضي يحضر بقوة في الحاضر ، بل إن
الموتى كثيراً ما نراهم حاضرين في الحاضر حتى وإن مضى على موتهم مئات السنين ، وقد
لاحظنا أن هذه العلة تلازم التاريخ البشري في كل أمة ، وفي كل عصر ، فالبشر مولعون
بالماضي إلى حد الهَوَس ، وهم يبدون ميلاً قوياً لاستحضاره في كل مناسبة وكأن
الحاضر لا يكتمل إلا به ، مما يؤكد أن الماضي عند مختلف الأمم لا يفقد سطوته
ونفوذه وجلاله وقدسيته ووقاره حتى وإن مضى عليه مئات السنين !
ويبدو
لي أن البشر لا يستحضرون الماضي بهذه الصورة الملحَّة إلا لخدمة أغراضهم الحاضرة ،
ولهذا نراهم يستعيرون من الماضي مقولاته وأفكاره وشخوصه ومواقفه ولغته ، بل كثيراً
ما يستعيرون حتى أزياءه مبالغة منهم في محاكاة الماضي حتى في شكله ، لا في مضمونه
فحسب !
حتى
ليخيل إليك في كثير من الأحيان أن البشر مجرد ممثلين للماضي على خشبة الحاضر، وهم
في هذه الحال يشبهون من يتعلم لغة جديدة ، فهو بطريقة غير شعورية يترجم اللغة
الجديدة ذهنياً إلى لغته الأم لكي يستوعب معانيها ، فكذلك يفعل ممثلو الماضي الذين
لا يفهمون الحاضر إلا بعد ترجمته بلغة الماضي ، غافلين عن أن هذا السلوك الماضوي ـ
على ضرورته في بعض الأحيان ـ ينطوي على جرعة عالية من الخداع والوهم ، لأن هذا
السلوك يتجاهل أن لكل عصر واقعه وحقائقه وطبيعته وأدواته ، وأن الماضي لا يمكن أن
يعيش في الحاضر إلا كما يعيش السمك خارج الماء !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق