قبل أيام اتصل بي أحد
فعاليات مدينة صيدا طالباً مني حضور لقاء مع "هيئة حرائر الشام" الذين
أتين لزيارته وشرح معاناة المرأة السورية وتضحياتها في زمن الثورة في بلاد الشام.
اعتذرت بلباقة، ليس زهداً في اللقاء، ولكن رأفةً بنفسي التي أدمتها المآسي.
في واقع الأمر؛ فقد اقتنعت
مبكراً أن الكتابة وحدها لا تكفي ثورة بعظمة الثورة السورية، ولا جرح شعب بحجم
الواقع السوري، فتفرغت لخدمة النازحين السوريين منذ سنة إلا قليلاً، عبر جمعية
أرأسها، حتى صار جل عملي هو ذاك، مع بعض المقالات حينما يسمح لي من تعهدت بخدمتهم
أن ابتعد عنهم قليلاً.
في خضم هذا العمل الممتع
والمحزن؛ اختزنت ذاكرتي قصصاً لا أقوى على استعادتها، ولا أرغب بسماع المزيد منها.
لأجل ذلك تخلفت عن لقاء "حرائر الشام"، لكن رئيس تحرير المجتمع –سامحه
الله- أجبرني على استذكار ما لا أريد، عندما طلب مني كتابة مادة عن معاناة المرأة
السورية.
عندما حملت القلم بدأت من
حيث أرغب، من عند الحاجة الحمصية التي أسعد كلما استمعت إليها. في واقع الحال؛ فقد
باتت لقاءاتي مع أم حسن شبه يومية. تضفي أم حسن على حديثها ظرافة حمصية ساحرة، وهي
لا تتوقف عن ذكر روايات لا أقدر على الاستماع إليها من سواها.
حوصرت أم حسن وأولادها
الخمسة في شارع مكشوف في جورة الشياح. على مدى أسبوع لم يجرؤ أحد على إخراج رأسه
من شرفة أو نافذة. ثمن المخاطرة رصاصة قناص تزهق الروح فوراً. عندما نفذ الطعام
والشراب قرر الرجال المحاصَرون خرق جدران المباني الثلاثة المتلاصقة، والوصول إلى
طرف الشارع الذي لا يصله رصاص القنص.
نجحوا بالفرار إلى حي قريب، لكن القصف اجبرهم
على البقاء في ملجأ -غير مخصص للبشر أصلاً- عدة أيام أخر. هناك أكل الناس البرغل
حتى انتفخت بطونهم. بعض الأمهات كن يضعنه في أكفهم مع الماء حتى تتفتح الحبات
قليلاً، ثم يُطعمنها الصغار، هكذا دون طبخ!. في هذا "القن" جلست أم حسن
خمسة أيام يروي لسانها نُكتاً حمصية!. في هذا المكان تعرّفت على أم شيماء التي
كانت ترفض الطعام رجاء أن ينزل الموت بها فترتاح!.
الحماصنة كانوا أول من أدرك
أن الاغتصاب تحوّل سلاحاً لكسر شوكتهم. سبق أن أخبرهم أهالي درعا عن معتقلين أُجبروا
على رؤية أعراضهم عرايا يعبث بعفتهن الأوغاد، ما لم يقبلوا الاعتراف على زملائهم.
أم شيماء رأت ذلك بعينيها. بناتها الثلاثة اغتصبهن شبيحة النظام الواحدة تلو
الأخرى في بيتها. كانت تسمع صراخهن دون أن تقوى على فعل أي شيء.
وحشية الشبيحة لم تترك لهن
نَفَساً، فلفظنها مع خروج آخرهم من البيت الكائن على أطراف حي الزهراء في حمص.
أخبرتني أم حسن هذه القصة
وقصصاً أخرى. ومن الصدف أنني قرأت القصة نفسها في مجلة غربية بعد مدة. أخبرتني أم
حسن عن فتيات اختطفن واغتصبن ثم رمين في شارع قريب عرايا في محاولة لكسر إرادة
الثوار. أخبرتني عن الحمصية التي ساومت ضابط الحاجز القريب من بيتها على أن يأخذها
ويترك بناتها فكان ما كان. أخبرتني عن الفتاة التي عقدت المأساة لسانها، والعروس
التي لم تعرف شهر العسل، والأم التي بكت أطفالها، والجدة التي ابيضت عيناها من
الحزن، والمرأة التي حضّرت السم لبناتها اتقاء العار.
تتشابه رواياتهن؛ الاغتصاب
سلاح. تخريب جنى العمر عقاب. واتهام الجماعات المسلحة عهر لا بد من القبول به رجاء
النجاة. روايات النازحين الأُخر كلها تؤكد أن الوازرة في سوريا تزر أختها، والناشط
الذي لا يُعثر عليه يؤخذ أهل بيته بديلاً منه حتى يسلّم نفسه. لا يهم أن تكون أخته
كبش فدائه، بل ذلك أقسى عليه ليفديها بنفسه.
من هول ما يروى، وما توثقه
جماعات حقوق الإنسان، فنحن فعلاً أمام نظام لم يتفوق في القرن العشرين عليه أحد في
استباحة الحرمات البشرية والمادية، ولا الاستهزاء بالذات الإلهية، وهو الوحيد في
عصرنا هذا الذي حوّل الأطباء إلى جلادين، يعذبون الجرحى بدلاً من إسعافهم. أهوالٌ
لا يقوى عليها أشد الرجال، فكيف للمرأة أن تحتمل رؤية فلذة كبدها مسجى وقد حملته
جنيناً، وأرضعته طفلاً، وربته صغيراً... فلم تكحل عينيها بشبابه... كيف تستجمع
نفسها لترى شقيقها أو بعلها أو والدها أو نسيبها أو الجميع معاً أجداثاً بلا روح. كيف
يقوى لسانها أن يقول: اغتصبوني...
قسوة الروايات تمنع من
الاسترسال في سردها، ولولا أن خدمة النازحين جهاد، لفكّرت بكسر أقلامي كلها وتقديم
نفسي فداءً لعِرضٍ مكلوم، لم تُسعفه شهامة العرب.
روابط ذات صلة للاطلاع
نساء باب عمرو تستغيث
مغتصبة تروي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق