** الحرية كلمة ممتزجة بالحضارة ومفتاح
من مفاتيحها .. لأنها كلمة الثورة السورية العظيمة .. **
يقولون عن فلان: الحرية بتلبقلو
.. وعن آخر "الحرية ما بتلبقلو"
يفهم من هذه الأقوال العامية أن الحرية
ليس لها حدود مرسومة بشكل حاسم بحيث تَفصل فصلاً كاملاً أمراً عن آخر بتعريف واحد شامل
ينطبق على كل الأحوال وكل الأزمان وكل الثقافات كما هي حال معظم أو كل المصطلحات التي
تعبر عن التعامل والذوق الإنساني والعرف الاجتماعي والتربية والثقافة ويلعب فيها رقي
المجتمع العامل الأبرز والأهم في عكس صورتها للآخرين.
ويمكن القول أنها إن مورست بشكل تقبله
الإنسانية ويقبله الناس فإنها تلقى الترحاب .. وإن قُبلت التصرفات التي توسم بها فإنها
تصبح مصطلحاً مرغوباً ومحبوباً .. وإن وسمت بها ممارسات منبوذة ومرفوضة من المجتمع
وثقافته فإن تشوهاً يطرأ على مفهومها وتصبح تفهم على نحو قد لا يعبر عن حقيقتها ومكنونها
في أذهان الناس ..
ينطبق على "مصطلح الحرية"
كل ما سبق .. وهو مصطلح أرى أنه موغل في أسباب الثورة السورية ومصطلح من أهم المصطلحات
التي تشكل الأعمدة في ثورتنا ولهذا ينبغي أن يكون هناك اهتمام خاص به لحمايته وصيانته
من التشوه والانحراف في المفهوم وإلصاقه بالتصرف والسلوك المعبرين عنه وليس كما يلاحظ
اليوم من إمراضيات تعترضه تحاول الفتك به وأبرز الأمراض التي تعترضه اثنان يمكن تشخيصهما
بقليل من الفكر والتحليل:
المرض الأول:
والذي أدركه النظام أنه فتاك مؤذ بهذا المصطلح فعمد إلى نشره من خلال التالي: الإهانة
والضرب والإذلال وإرفاق ذلك بالقول للمهانين ممن يطلبون الحرية في التظاهرات ..
"بدكن حريي" و"هاي هيي الحريي اللي بدكن ياها" .. ومن خلال الإعلام
الذي كرس ذلك التكريه بالمصطلح فيقولون عقب كل تفجير يحدثه النظام ويستجلب أعوانه للتحدث
أمام الكاميرات الأسدية: "هي حريتك يا حمد" .. "هي هيي الحرية؟"
بعد انتشال جثة مقطعة الأوصال أو أجزاء منها .. في منظر منفر يعبر عن وجود الإنسان
في غابة من الوحوش فلتت من عقالها وتمارس حريتها الآن!!.
المرض الثاني:
من خلال ضعف الوعي الشعبي العام بهذا المصطلح .. ساهم به البعض عن غير قصد أو غير وعي
كاف .. وهذا أمر مبرر وطبيعي في صحوة حديثة نوم طويل لأربعين سنة عن الحرية ومفهومها
.. فيتصرف الثوار للأسف أحياناً بشكل غير لائق وعن غير قصد وأحياناً بشكل مسيء أو شبابي
غير ناضج ويقول إن تعرض لملامة أحد "أخي أنا حر" .. فيلصق لسوء تقدير منه
لفظ الحرية التي تعبر عن رأيه الشخصي أو تصرفه الشخصي الذي يخرج بشكل غير مألوف أو
محمود أو مضبوط العواقب فتكون نتيجته غير مرحب بها ويراها الناضجون بأنها تصرف غير
سليم وأن من يمارس هذا التصرف غير ناضج،، فيعبر الناس إن كانوا متفهمين ولطفاء تجاه
هذا المصطلح المظلوم بقولهم عن المخطئ: "ما بتلبق له الحرية" .. في إشارة
إلى أنه مصطلح سليم نبت في غير أهله! ومن دعاهم لهذا الحكم هو الثائر نفسه أحياناً
للأسف قد تكون لبعض أخطاء قد تستغل وتضخم قصداً..
ومع هذين المرضين تشوه مفهوم
"الحرية" مما دعا الإعلاميين إلى تجنب إطلاقه حال هذا المرض الطارئ عليه
.. وما هو واجبنا بعد تشويهه هو إيضاحه للناس ونشر الوعي به وبأهميته وبأساسيته في
ثورتنا كونه أحد الأعمدة التي قامت لأجله .. ونطقت به حناجر طالبت به حقيقة لوعيها
بأنه أساس من أسس كل مجتمع متطور حضاري ينال فيه الإنسان كرامته وحقوقه .. ورفعت به
لافتات ملأت الشاشات في مظاهرات عمت أرجاء سورية ..
لوحظ بعد إمراضه تراجع في رفع لوائه
وعلينا أن نعيده للأذهان مرة أخرى ليعود لرونقه وضيائه ولمعانه الأصليين .. فما معنى
الحرية التي طالب بها الثوار حينما أعلنوها ثورة ضد الاستبداد.
من هنا المنطلق :
فالحرية نقيض الاستبداد والتسلط والفرض بشكل يتجاوز حدود القانون والأمور الشخصية
.. هي ضد أن يفرض على الإنسان رأي هو ليس رأيه .. ولا دين هو لا يقتنع به .. ولا عمل
هو غير راض عن عمله .. وهو عكس تجاوز الخصوصية والتدخل في خيارات الناس والاختيار عنهم
بل وعكس فرض القرارات عليهم دون وجه حق أو تحت جناح القانون ..
الحرية هي أن تمارس حقوقك كإنسان محترم
لغيرك وتقف حدود حريتك عند حدود حرية الآخرين لا تتعدى عليها .. فلا تتجاوز حقك في
إبداء رأيك إلى فرضه .. ولا تتجاوز حقك في عمل ما يخصك إلى أذية غيرك باسم هذا الحق
..
الحرية أن تنطق ما تشاء دون أن تخاف
على نفسك ممن سمعك .. وتفعل ما تشاء إن كان من حقك دون أن تخشى أحداً لأنك مصان محفوظ
الكرامة .. الحرية أن تدافع عن رأي غيرك -الذي لا يوافقك- إن انتهك لأنه رأيه، فإن
حصل هذا ضُمنت لك الحرية أيضاً واحتُرمت كما احترمت غيرك .. الحرية ألا تنفذ رأيك إن
عارض الكل أو الأكثرية .. لأنك حينئذ تنتهكها لأنك يجب أن تقف عند حدود حرية الآخرين
..
إذاً فالحرية تبيح لك أشياء إن لم
تتعدى بها أشياء تخص غيرك ..
والحرية لا تناسب المستبدين والمتسلطين
لأنهم يفرضون آراءهم بالقوة وعنوة وبالإجبار .. إن وافقت الآخرين أم لم توافقهم ..
والحرية يخشاها المستبد وهي أشد ما يخاف منه الحكام الظلمة لأنها تفضحهم وتعري ضعفهم
.. الحرية هي العدو اللدود للمتفرعنين الذين يصلون فيما بعد إلى تأليه أنفسهم حينما
تُسلب الحرية من شعوبهم .. فهي حد من حدود العبودية للبشر .. من ينتهكها ويمارس سلطته
بعيداً عنها يضمن كل شيء آخر فيتراجع البناء والتطور وتحتكر الأموال لصالح ثلة المستبدين
.. وشيئاً فشيئاً يعتاد الناس على غيابها وتصبح قانوناً في حياتهم لا يحق لهم اجتيازه
أمام سلطة فرضوها على أنفسهم بلا شعورهم ..
الحرية إن وجدت وطبقت بشكلها الصحيح
يتنوع بستان الحضارة وتتمازج فيه الألوان في لوحة فنية رائعة .. وإن وجدت في ثقافة
مجتمع تحضّر وارتقى وتفاهم الناس وتفهموا بعضهم وأمكن لهم أن يتعاملوا فيما بينهم بشكل
جماعات .. ولهذا فالحرية عدو المستبدين لأنه كلمة السر في العمل التعاوني الناجح والعمل
الجماعي .. لأنها إن وُجدت وَجد الإنسان ذاته وشعر بأهمية وجوده وأهمية عطائه .. وشعر
بأنه إنسان فعال مساهم بما عنده، يأخذ من غيره وغيره يأخذ منه .. يتفاعل مع الآخرين
ويتفاعلون معه لإكمال عمل متنوع الإبداعات ..
الحرية إن وجدت ساد التفاهم وسادت
المحبة وساد الشعور بالحاجة للتعاون مع الآخرين وبنفس الوقت الاعتزاز بما عند الذات
.. وإن غابت سادت الفردية والكره للناس وما عندهم وساد الاستغناء عنهم وانتهكت قيمة
العمل الجماعي .. إن غابت الحرية تكلم كل إنسان مع ذاته وسمع ذاته وطبق ما عنده فقط
وسادت في الذات الأمراض التي تشبه زواج الأقارب نظراً للانغلاق على هذه الذات .. وإن
غابت الحرية انغلق كل إنسان على ذاته.
الحرية كما هي حق للذات هي واجب تجاه
الآخرين تقف عند حقوقهم .. فإن ساد الحق عند حدود الواجب أعطى المصطلح ثماره الحقيقية.
وإن انحسرت الحرية ساد الظلم رفيق الاستبداد وامتد وطغى كما مد وجزر البحر وغابت بالتالي الحقوق ..
إن العدو الأساس للاستبداد هو الكلمة
.. ولهذا فهناك شيء اسمه "حرية الكلمة" و"حرية الرأي" .. وهي لا
تساوي بمعناها الفوضى مطلقاً كما يروج له ويشاع .. فالفوضى تكون حينما يكون لكلٍ رأيه
دون قرار .. أما الحقيقة فالحرية تضمن الرؤية من وجهات النظر المختلفة وبالتالي الوصول
لقرار أكثر نضجاً ويجمع فيه الصواب على أعلى مستوى ممكن .. والحرية هي الضامن للتطوير
والإبداع وبدونها يسود اللون الواحد كما في مجتمع الاستبداد .. ويطغى سواد فئة على
كل الألوان الأخرى فيسود الخلل ..
الحرية هي الباب الملكي الذي يدخل
منه أي مجتمع إلى رتب ومراتب الحضارة وهي أساس من أسس كل مجتمع وعماد من أعمدة التقدم
لأي مجتمع إن ترافق بالعدل وبثلة من المصطلحات الأسس تكتمل الدولة الحقيقية التي ترتفع
وترتقي إلى مصاف الدول ذات المراتب الأولى ودونها لا أمل في مجتمع .. وبدونها لا دولة
ولا حياة بل تقهقر وتراجع وحتماً وراء كبتها انفجار شعبي في يوم من الأيام يطالب أول
ما يطالب بها ولو لم يُفقه معناها الحقيقي لتغييبه من قبل المستبدين عقوداً وأجيال.
لهذا قال الشاعر:
وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة
يدق.
4-5-2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق