كنت أمس أجلس إلى جانب أم حسان أتابع دراستها
لقصيدة الشاعر الفذ أبي تمام في رثاء
القائد العباسي محمد الطوسي كذا:
فليجل الخطب ، وليفدَحِ الأمرُ فليس
لعين لم يفض ماؤها عذرٌ
وكانت تستشيرني في بعض ما تكتب شرحاً ونقداً ، إلا في
هذه القصيدة لأنني لم أكن أوافقها فيما تعلمناه قبل أربعين سنة من أستاذنا المرحوم
" محمد صبري الأشتر" في شرح هذه القصيدة ونقدها، إذ كان يدرسنا الأدب
العباسي في أواخر الستينات من القرن الماضي في كلية اللغات " فرع اللغة
العربية " في جامعة حلب .
أذكر أن أستاذنا إذ ذاك كان مندمجاً بشرح هذه
القصيدة يحرك يديه ، ويغمض عينيه وهو يعيش جوّها ، ويدعوننا لنعيش معه هذا الحدث
الحزين قائلاً : إن استشهاد القائد العربي
البطل كان مصاباً جللاً ما بعده مصاب ، وخطباً فادحاً يقتلع القلوب ، وترتجف له
الصدور ، تفجّرت العيون دموعاً غزيرة
تفجّعاً عليه . وما ينبغي لأحد عرف هذا
القائد العظيم ، وخَبـِرَ بطولاته إلا أن يبكيه بدل الدموع دماً .....
لا شك أن أبا تمام شاعر مجيد قل نظيره في عالم الشعر العربي قديمه
وحديثه ، وما قصيدته في فتح عمورية إلا تحفة فنية راقية تتسنّم ذرا الشعر أسلوباً
ومعانيَ وبلاغة ، أقف أمامها مبهوراً بصورها الحيّة الدفّاقة وألوانها المتداخلة
الخلاّقة .
إلا أنه في هذا البيت ذكّرني بقول تلميذه البحتري
حين قارن بين شعره وشعر أستاذه :
"
جيّده خير من جيّدي ، ورديئي خير من رديئه " . فأبو تمام في هذا البيت يقول :
إما أن تكون المصائب هكذا وإلا فلا ، وأقل ما نرتضيه من المحبين أن يبكوا لهذه
الفاجعة كثيراً !!! وأقرب ما يكون التعبير بلغتنا العاميّة المحليّة " يا هيك
مصيبة ، يابَلا " !! .
قلت – وأنا أجول بذهني في عالمنا العربي قديماً
وحديثاً – لِماذا هذه المبالغة في التملق ولِمَ المزاودة في التهويل ، وعلامَ كل هذا التفخيم في أمور قد تكون على وجاهتها
عادية ؟
مات إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم ، فدمعت
عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " تدمع
العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".
والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق
الأعلى فما كان من خليله وصاحبه أبي بكررضي
الله عنه إلا أن رفع الغطاء عن وجهه الشريف فقبله وقال : طبتَ حياً وميّتاً يا رسول الله ،
ودمعت عيناه ثمّ شمّر عن ساعد الجد يُكمل بناء الدولة الإسلامية .
ويُقتل الإمام علي رضي الله عنه ، فيذرف ابناه سيدا
شباب أهل الجنة دموع الرجال ، ثم يحمل الحسن – الخليفة الراشد الخامس - الأمانة بثبات .
إلا أننا اعتدنا التعظيم والتهويل في كل الأمور كبيرها
وصغيرها ، جليلها وحقيرها .، وهذا دليل الفراغ في القلوب والعقول ، ولا أزال أتندر
وأصحابي كلما تذكرنا نشرات الأخبار في دولة خليجية كنا نعمل فيها حيث يستعرض
المذيع الألقاب في كل خبر، فتطول نشرات الأخبار بسبب هذا الصف الطويل من الألقاب
التي لا بد من ذكرها قبل اسم صاحب الرفعة والسموّ!
مثال ذلك الترجيع والتكرار : أمر سموّ الـ... وليّ
عهد ... نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة ، وزير الدفاع ، رئيس بلدية ...
بتعبيد الطريق بين حيّ كذا وحي كذا ..
وكان الأولى أن تُذكر صفته فقط : رئيساً للبلدية في تعبيد الطرقات ، وصفته وزيراً للدفاع فيما يخص الجيش من تدريب
وتسليح .. وصفته ولياً للعهد فيما يخص اللقب الأميريّ . أما أن يَرصف المذيع كل
هذه الألقاب لرصف طريق وتعبيده
- فإذا بالألقاب أطول من الطريق
نفسه - فهذا امتهان لذلك الشخص ، وحَطّ من صفاته وألقابه - لو كان يدري –
أما في البلاد العربية كلها فإنك ترى الصورة نفسها
في كل مكان ، ولعلك تسمع وترى شبيه القول التالي يتكرر في كل مكان من بلادنا
المغلوبة على أمرها ، كأنْ تسمع
هذا الأسطوانة المشروخة : بتوجيهاتٍ من صاحب العصمة والرفعة ( فخامة الملك
أو جلالة الرئيس ) يأمر رئيس الوزراء برفع الرواتب والأجور - رفعاً رمزياً – بعد
ارتفاع الأسعار الجنوني لكل السلع الرئيسة والفرعية . ولا ينسى المذيع أن يجعل رفع الرواتب ( مكرمة
ملكية أو رئاسية أو أميرية أو قل ما شئت )
وينسى القول : إن رفع أسعار السلع ( خوازيق وصلت إلى النخاع ) ولن يرفعها
من مكانها أبرع الأطباء الجرّاحين ، فقد أخذت مكانها وتجذ ّرت فيه .
لقد اعتاد العربي منذ عهد الجاهلية الأولى إلى
عهدها الحالي أن يقول للمسؤول :
لك
المرباع منا والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع : ربع المغنم
يأخذه رئيس القبيلة .
والصفايا :
جمع صفي . وهو ما يصطفيه الشيخ لنفسه من المغنم ،
والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان
يختص به رئيس القبيلة دون غيره.
والفضول
: ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .
ولما جاء الإسلام منع هذا ، إلا أن العربي ما يزال
يعشعش في قلبه وعقله وجسمه هذا القول : "
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق