إن للجنون فنون، وللناس فيما يعشقون
مذاهب.
عندما وصلت إلى أمريكا في بداية الثمانينات،
أخبرني أخ عزيز علي عن رجل يقال عنه أنه من دعاة المسلمين. قال لي أنه لا يأتي إلى صلاة الجمعة إلا إذا
كان قائما واعظا أمرا ناهيا على المنبر، إنه من تجار الدين والمنابر. سمعت من صديقي ولم أصدق في حينها، لأنني لم
أتصور في ذلك العمر أن يصل أحدا إلى درجة من النفاق والنذالة فيتاجر بدين الله من
أجل غرض دنيوي ووقفة على المنبر، حتى رأيت ذلك بأم عيني مرات ومرات. فالرؤيا بالعين خير دليل.
لقد قيل، ستبدي لك الأيام ما كنت
جاهله. ودارت عربة الزمن، وتدحرجت
الأفكار، وفجعت الأيام على معارج الطريق، ورأيت الكثير حتى انجلى نسيج رأسي
واشتعلت ذوائبه.
رأيت مهرجاً أحب ما عليه أن ينطنط على
منابر المساجد والمنصات قائما خاطبا، وهو من الكاذبين المنافقين الغدارين الخادعين
المراوغين، ذو لسان طويل }فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ
ٱللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ{ البقرة:10. إنه من مجانين المنصة.
وأخر لا يأتي للمسجد إلا لإعطاء
الدروس والمحاضرات وإلقاء الخطب والكاميرا تسجل على الإنترنت. إنها فتنة الكاميرا والمنصة ... إنه جنون
الكاميرا في عصر الإنترنت. ولو سمعت خطبته
لظننت أنه نبي مرسل. كلامه في واد وأفعاله
في واد أخر. فالمنصة والكاميرا والإنترنت
أداة فعالة لجذب انتباه الناس وللحصول على الشهرة والاحترام بين الأمصار. هي محبوبة من تتوق نفسه للتألق. إنها هيام يؤرق المنام. إنه حب الظهور لإشباع مرض في الصدور.
لقد شعشع مرض سلطان زمان في بلاد
الأمريكان. هرب المهاجرين من فراعنة
أوطانهم وهم يحملون داء ظهور السلطان أمام الحاشية بين طياتهم إلى موطنهم
الجديد. يطبقون ما لا يطيقون ويقولون ما
لا يفعلون }يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم
مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ{ سورة
آل عمران:154. لقد بدأت تسقط الدكتاتوريات
في بلادهم التي هاجروا منها، ولكنهم مازالوا يطبقونها في بلاد الحريات التي هربوا
إليها. يقول الفيلسوف هوثرون: "لا
يمكن لشخص خلال فترة من الزمن أن يلبس وجهين متناقضين، واحد لنفسه وأخر للناس، إلا
واحتار أيهما وجهه الحقيقي". فالأنبياء لم تأتي من اجل تزيين المساجد وأماكن
العبادة، بل لبناء القلوب وتطهير النفوس، حتى يكون العمل خالصا لله.
لقد وجد من خلال تجربة سجن ستانفورد
(راجع مقالة عقدة فرعون) أن نفسية الإنسان ذو القيم قد تتغير عندما يستلم منصبا،
ويعلل ذلك بأن المسألة تصبح شخصية بينه وبين الأخرين الذين يعارضونه. فالضغط الاجتماعي قد يجعل من الإنسان الجيد
يفعل أشياءً سيئة من أجل المحافظة على مظهرة الاجتماعي أمام الأخرين. مما قد يؤدي بالناس الجيدين عندما يتولون منصبا
ما، أن تظهر منهم حماقات غير متوقعة من خلال معرفة سلوكهم بالسابق. فالضغط الاجتماعي ليحافظ الفرد على مستواه
الاجتماعي أمام الناس قد يدخله في سلوك بعيدا عن القيم الإنسانية (فشربوا منه إلا
قليلاً منهم).[1]
هناك خطوط متشابه بين مجنون ليلى
ومجنون المنصة والكاميرا، فالأول جاهل صادق، والثاني ذو علم منافق. وكلاهما شَقيَ وراء صرح بناه من الخيال وهو
يحلم بأوهام محبوبته. إن للجنون فنون،
فالمجانين تشقى وراء صرح تبنيه من الخيال بدون ضابط. كلاهما يعيش على أوهام خيال محبوبته. فالأول جرى وراء خيال ليلى، والثاني مازال يجري
وراء خيال المنصة }يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ
مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُۥ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ{ النور:39. الأول أنكر ليلى عندما رآها على حقيقتها،
والثاني نكره الصادقين من الناس عندما عرفوه على حقيقته. (وهنا يجدر الذكر أن العباقرة تشقى وراء صرح من الخيال
تبنيه بضابط).
وأخر لا يحضر مجلسا فيه عملا لله
تعالى إلا إذا دعي لمقعد في صدر المجلس أو قائما واعظاً على المنصة }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ الجن:18. المشكلة أن هؤلاء الذين يقفون على المنصة لا
يشعرون بنفاقهم فيتكلمون بأحسن ما عندهم، وعندما ينزلون منها يفعلون ما يحلوا لهم.
طبعا، لا ينجو من هذا المرض العقيم
إلا من طلق شهوات الدنيا وطلق طلابها، ولا يهمه ما يقوله الناس عنه سواء في حضرته
أو في غيبته. فالواثق من نفسه لا يبالي بآراء
الأخرين ولا يهمه إرضائهم، فواثق الخطوة يمشي ملكاً.
وأخر كنت أحسبه من الصالحين، وبعد
تجارب طويلة تبين لي أنه سيدا للمنافقين والخادعين. يبيع ويشتري
بدينه وربه
وأقربائه وأصدقائه المقربين من أجل دقائق على المنصة، مما أرداني في كآبة لأيام من
وقع ما رأيت منه، إنه عضو في مافيا المنصة.
فله لسان على المنبر رنان، وحفظ لكلام الصالحين طنان، وغاية في صدره لا
يعلمها إلا العليم المنان، إنه بتجارة الدين فنان }أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ
فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَـٰنَهُمْ{ محمد:29، وفي الحديث: {من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب
به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة}. يقول ادولف هتلر: "أصنع الكذبة كبيرة،
واصنعها بشكل بسيط، ورددها دائما، وسيقتنع بها الناس بعد حين". إنه رجل عديم الإخلاص. فالذي لا يخلص مع الناس، لن يخلص مع الله.
وأخر يقول بأنه سيجمع شمل الجالية من
أجل عمل خيري لجمع التبرعات لبلده المنكوب، ولكنه يروغ كما يروغ الثعلب، فيقرب
ويبعد ويحذف ويقدم ويلعب ويكذب. انتحرت
القيم والأخلاق عنده من اجل مقاصده وما تكن نفسه، إنه يستحق لقب سيد الثعالب وزعيم
المراوغين. يقف في أول اجتماع ويفرض نفسه
أمام المجتمعين ويقول بأنه سيكون المتحدث الأول القائم القائل المقدم للحفل على
المنصة، ثم يدعو أباه من فوق المنصة ليتكلم على المنصة، إنها مسرحية "مافيا
المنصة". أضاع جهده فداءً
للمنصة. إنها فتنة المنصة. يقول أينشتاين: "الإنسان الذي لا يتبع
الحق بجدية في الأشياء الصغيرة، لا يمكن أن يثق به في الأشياء الكبيرة
أبداً". }مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَوٰةَ
ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـٰلَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ{ هود:15
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق