إن حب هذا الرجل لزوجته تجاوز كل الحدود .. حب
نادر .. حب عظيم لم يسجل التاريخ قبله ولا بعده ! هكذا قال أحد أقرباء
"الزوج الولهان" كما أصبحوا يسمونه في المستشفى بعد ما رأوا من تعلقه
بزوجته التي ترقد على سرير المرض بين الحياة والموت!
ولكثرة ما سمع مدير المستشفى من الأطباء
والممرضات والموظفين عن هذا الزوج الولهان، جاء بنفسه يزور الزوجة المريضة ليرى
بعينيه تفاصيل الحكاية العجيبة التي انتشرت في مستشفاه وأصبحت حديث الأطباء
والممرضين والممرضات والموظفين والمراجعين والزوار وكل من هب ودب ، وعندما دخل
المدير على المريضة ورأى ما جلبه الزوج لزوجته المريضة من باقات الورد والتذكارات
الثمينة التي ملأت غرفتها ، قال في ذهول :
- غير معقول ! هذا الزوج غير معقول ، لقد سمعت
كثيراً عن روميو وجولييت ، ومجنون ليلى ، وعن عشاق الماضي والحاضر ، لكنني لم أسمع
بمثل هذا الحب والغرام والهيام من زوج لزوجته !
ثم
أضاف بنبرة متفائلة :
- الحمد لله ، الدنيا مازالت بخير ، مازال هناك
إخلاص ومخلصون وعشاق في هذا الزمن الصعب !
وتناول
ملف المريضة وراح يقلبه ، فاعتكرت نظراته حين أدرك أنه لا أمل في شفائها ، وأن
حظها في الحياة قد لا يزيد عن أيام معدودات
، وعاد يتأمل الزهور والورود التي تملأ المكان ، ثم أضاف وهو يتنهد بألم :
- مسكين هذا الزوج ، لن يحتمل الصدمة !
والتفت
المدير نحوي وأضاف :
- أرجو أن تستعد أنت وزملاؤك لمساعدة الزوج فيما
لو حصل المحظور ، فقد تكون صدمته كبيرة وقد يقضى عليه عندما يعلم بالخبر !
وبالفعل
سارعنا إلى تحضير بعض الأدوية الإسعافية وأجهزة الإنعاش استعداداً لمثل هذا الطارئ، وقد زاد من قلقنا انتشار أخبار "الزوج الولهان" في كل مكان حتى وصلت
إلى الصحف المحلية التي راحت تنشر يومياً خبراً في صفحاتها الأولى عن حكاية هذا
الحب الجارف الذي أصبح حديث الناس في المدينة ، وبما أنني الطبيب المشرف على علاج
الزوجة ، ولأنني واحد من أصدقاء الزوج المقربين ، فقد أصبحت محط الأنظار ، فحيثما
كنت راح الناس يسألونني عن "الحكاية" ويطلبون مني رواية التفاصيل ، حتى
إن أحدهم سألني بشيء من التهكم عن عمر هذا "الحب الأعمى" حسب تعبيره ،
فقلت :
- سنوات طويلة ، ربما عشرين سنة أو تزيد ..
وسألني
آخر :
- وما هو مرض الزوجة المسكينة ؟
- سرطان ..
- سرطان ؟ العياذ بالله ! هذا يعني لا أمل في
شفائها ؟
هززت
رأسي : نعم ، وقال رجل آخر وقد بدا عليه التأثر الشديد :
- في هذه الحال ما مصير هذا الزوج المسكين لو
أنها ماتت ؟
وقبل
أن أجيب أضاف رجل آخر بعد أن عدل جلسته وبدا على محياه الحزن حتى ظننت أنه على وشك
البكاء :
- مؤكد أنه سوف ينتحر ، فما سمعناه عن تعلقه بهذه
الزوجة يفوق الخيال !؟
قلت
:
- لا أعتقد .
وسادت
برهة من الصمت الثقيل ، فأضفت :
- على كل حال ، نسأل
الله أن يلطف به وأن يصبره ..
فقاطعني
أحدهم بنبرة حاسمة :
- كيف ؟! كيف يمكن أن يصبر وروحه معلقة بزوجته
إلى هذا الحد ؟!
قلت
:
- لا أدري ، والحقيقة أننا نحن الأطباء في
المستشفى قلقون جداً لما يمكن أن يحصل لذلك الزوج المسكين عندما يقع المحظور ويعلم
بوفاتها !
وبالفعل
وقع المحظور أسرع مما كنا نتوقع ، فقد تدهورت حالة الزوجة سريعاً بالرغم من
العناية الفائقة التي بذلناها ، وفارقت الحياة وسط ذلك المهرجان من الزهور والورود
والتذكارات النادرة التي كانت تحوط بها ، ورأيت الجميع يبكون وهم ينقلون أبصارهم
ما بين الفقيدة وبين هذا المهرجان من الحب ، فلم أتمالك نفسي من البكاء ، وخرجت من
الغرفة لأداري دموعي وإذا بي وجهاً لوجه أمام الزوج المسكين الذي يبدو أنه جاء
ليزورها ولم يعلم بالخبر بعد ، فأخفيت دموعي عنه ، وطلبت منه أن يرافقني إلى مكتبي
متعللاً ببعض الإجراءات الضرورية ، وكنت أنوي إعطاءه بعض المهدئات لكي أخفف عنه
وقع الصدمة ، لكن يبدو أنه لاحظ اضطرابي ، فرفض مرافقتي ، ودفعني عنه ودخل الغرفة
، وحين رآها مسجاة بلا حراك وقد غطينا وجهها ، ورأى الوجوم يخيم على الجميع ،
اندفع إليها فكشف الغطاء عن وجهها ، وضمها إلى صدره ، وراح يجهش بالبكاء !
وأراد
أحد الزملاء أن يمسك به ليهدئه فأشرت له أن يتركه برهة ينفس فيها عن حزنه وألمه ،
وهممت أن أخرج من الغرفة لولا أني رأيته يتوقف فجأة عن البكاء ، ويرفع رأسه وينظر
حوله بعينين زائغتين ، ثم بحركة خاطفة شد إليه إبريق الماء الموضوع قرب السرير ،
فصب ماءه ، وضرب به وجهه ضربة واحدة جعلت الإبريق يتناثر على الأرض شظايا ..
- يا إلهي !
- أعوذ بالله !
- يا لطيف !
صرخت
أنا ، وصرخ مساعدي ، وصرخت الممرضات وهن يغادرن الغرفة في ذعر ، واندفعت أنا
ومساعدي إلى الرجل ، أمسكنا به ونزعنا من يده قبضة الإبريق ، فيما كان الدم يتدفق
من جبهته بغزارة !
***
مرت بخاطري هذه المشاهد المؤلمة وأنا في طريقي
إلى بيت ذلك الزوج تلبية لدعوته من أجل حضور مناسبة لم يشأ أن يفصح لي عنها بالرغم
من إلحاحي ، فأنا مشغول جداً في المستشفى ، ولا وقت عندي للمناسبات هذه الأيام ،
لكن الرجل ألح في دعوته ولم يترك لي مجالاً للاعتذار .
وفي طريقي إليه رحت بيني وبين نفسي أفكر بما
عساها تكون هذه المناسبة في منزل الرجل الذي لم يمض على رحيل زوجته الأثيرة سوى
أسبوع واحد !؟ ومضى بي التفكير إلى أن الرجل يريد أن يرد لي الجميل على ما قدمته
لزوجته من رعاية طبية خلال فترة مرضها ، فليس هناك من سبب آخر لهذه الدعوة الملحة
والرجل مازال يعيش ذكرى فجيعته بتلك الزوجة الغالية !
عند باب منزله استقبلني واحد من معارفه ،
ودعاني للدخول ، وتناهى إلى سمعي أصوات زغاريد فلم يخامرني شك أنها آتية من منزل
مجاور ، لكن .. ما إن دخلت صالة الضيوف حتى رأيت العروس في أبهى زينتها إلى جانب
"صاحبنا" الذي كان الضماد مايزال على جبهته ، ولم أجد ما أهنئه به سوى
ابتسامة أرسلتها له من بعيد وأنا أقلب كفي عجباً من الحب الكبير الذي انطفأت ناره
وأصبح رماداً قبل أن تندمل جراحه !
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق