بسم الله الرحمن الرحيم
قال
ربنا في كتابه الكريم: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } القصص5، والإسلاميون
مع غيرهم من الفئات التي استضعفت في بلدان العالم العربي على مدى عشرات السنين وكان
مكانها المعتقلات والسجون ونصيبها القتل والتعذيب، هم اليوم المرشحون قبل غيرهم ليكونوا
أئمة الناس في بلدانهم، وكلمة أئمة في القرآن والحديث تعني رؤساء الناس وحكامهم أكثر
مما تعني أئمتهم في صلاة الجماعة..
الإسلاميون العرب اليوم أمام تحدٍ كبير ربما
لم تتح لهم ظروف القهر ومحاولة الاستئصال التي كانوا واقعين تحتها أن يستعدوا له، وهو
كيف سيحكمون هذه الشعوب التي ثارت وقدمت الشهداء من أجل تحررها من الاستعمار الداخلي
المتمثل بالطغاة والمستبدين الذين حكموها لصالح الاستعمار الخارجي الذي خرج منها ليترك
بدلاً عنه وكلاءه وعملاءه يحققون له ما يريد. الإسلاميون الآن أمام استحقاقات تبدو
متعارضة ومتناقضة ما لم نجد لها المخرج المناسب. قواعدهم التي تربت على أن الإسلام
دين ودولة وقدمت التضحيات وهي تناضل لتحقيق حلم الدولة الإسلامية ينتظرون من قياداتهم
التي بدأت تتسلم شيئاً من مقاليد السلطة أن تحقق لهم هذا الحلم الذي طال انتظاره. وبالمقابل
جماهير الشعوب العربية المختلفة بتكويناتها المتنوعة عرقياً ودينياً وثقافياً تنظر
لهم بقلق وتوجس، فهي تخشى أن تتحرر من طغيان لا ديني لتقع تحت طغيان يقهر الناس باسم
الإله.
ثلاثة نماذج عرفها العالم المعاصر للدولة الإسلامية أولها الجمهورية الإسلامية
في إيران حيث ولاية الفقيه وهيمنته على كل عناصر السلطة والقرار مما يفقد الديمقراطية
لديهم الكثير من فعاليتها وحقيقيتها، والنموذج الطالباني في أفغانستان الذي أعطى صورة
بشعة للدولة الإسلامية بسبب تخلف الذين أقاموه في مجال فهمهم للإسلام وفي مجال العلوم
المعاصرة، فكانوا مثالاً منفراً من الدولة الإسلامية رغم طيبتهم وإخلاصهم وحسن نواياهم.
ويبقى النموذج الثالث القائم للدولة الإسلامية وهو نموذج المملكة العربية السعودية،
وهو نموذج لا ترغب فيه الشعوب العربية ولا تتطلع إلى تقليده، لأنه نموذج ينتمي إلى
زمن قديم ويتطور ليستوعب قيم المعاصرة والتحديث في المجالات الاجتماعية والسياسية ببطء
لا يغري الشعوب بتقليده. ثم ظهر مؤخراً نموذج دولة العدالة والتنمية في تركيا الذي
أثبت نجاحه وأثبت للناس أن الإسلام هو الحل حتى لو كان من دون شريعة.
أردوغان وحزبه كانوا واقعيين وعقلاء وأدركوا أنه لا أمل على المدى القريب والمتوسط
في إعادة تركيا إلى حكم الشريعة الإسلامية، وأنه لا بد من عمل شيء عاجل لتحسين معيشة
الناس والنهوض ببلادهم اقتصاديا وعلمياً وسياسياً من خلال إعطاء الفرصة لترسُّخ قيم
الديمقراطية والحرية في المجتمع التركي، وحرمان الجيش التركي - الحاكم الحقيقي لتركيا
- من أية مبررات أمام الأتراك وأمام الدول الغربية التي يعمل لإرضائها، لإجهاض العملية
الديمقراطية كما سبق له أن فعل كلما قوي نفوذ الإسلاميين هناك وصار يهدد العلمانية
عندهم، العلمانية التي اشترى بها أتاتورك استقلال تركيا عندما تهدد بشدة أثناء الحرب
العالمية الأولى، فضحى بالشريعة والإسلام ورضي العلمانية وتحجيم دور الدين في المجتمع،
مقابل أن يضمن الحلفاء استقلال تركيا وتخرج القوات البريطانية واليونانية من الأجزاء
الكبيرة من تركيا التي وقعت تحت احتلالهما. ما يزال استقلال تركيا منقوصاً لأنه مشروط
بعلمانية مفروضة عليها من خارجها وتحرسها قوى عسكرية ارتبطت مصالح أشخاصها باستمرار
العلمانية رغم أنها مرفوضة من أغلبية الشعب التركي، لكن تبقى القوة هي التي تفرض ما
تشاء إلى أن يُعِدَّ الحق ما استطاع من قوة ليزيل الظلم والطغيان. أردوغان الإسلامي
الملتزم كان ذكياً جداً وأراد أن يتقي الله ما استطاع في مجال السياسة فأعلن قبوله
للعلمانية، وتقدم مع حزبه ليحكم تركيا بلا خيانة أو سرقة لخيرات البلاد، فازدهرت تركيا
ازدهاراً رائعاً في بضع سنين، وتعاظمت شعبية حزب العدالة والتنمية في تركيا مما حماه
حتى الآن من أن ينقض الجيش التركي عليه كما انقض على أحزاب إسلامية من قبله.
شعار الاسلام هو الحل يعبر عن حقيقة يؤمن بها أكثرنا، لكننا لا ننتبه إلى أن
الحل الإسلامي لمشكلاتنا لا يكمن في تطبيق الشريعة فقط، بل في تربية الناس على الأمانة
والخوف من الله، بحيث يعملون لصالح البلاد والعباد لا لصالحهم الشخصي عندما يكونون
في موقع المسؤولية، وبحيث يتورعون عن أكل المال العام والرشوة تماماً كما يتورعون عن
أكل مال الناس بالباطل، عندها يبارك الله للأمة في خيراتها التي تتراكم بعد توقف الهدر
والنهب لتنهض البلاد وتتطور على كافة الأصعدة، وهذا ما حصل في تركيا رغم الغياب الكامل
للشريعة الإسلامية عندهم، ورغم أن قوانينهم علمانية لا دينية كالقوانين الأوربية تماماً.
قد يتمنى بعض الإسلاميين عندنا أن لو يستطيعون أن يفعلوا مثل ما فعل أردوغان
وحزبه، لكن لا أحد من القواعد الإسلامية عندنا سيقبل منهم ذلك، وبخاصة ونحن نؤسس لحكم
شعبي ديمقراطي يشارك فيه الجميع ويكون لجميع مكونات الأمة. إن العلمانية التي رضي بها
أردوغان وتكيف معها في تركيا هي عودة إلى الوراء بالنسبة لشعوبنا التي يغلب عليها التدين
والحب للإسلام، وستصبح هدفاً لأعداد لا تحصى من الشباب المجاهد الذي سيستحل قتل القائمين
عليها والمنادين بها، ولن تنجح في بلادنا أكثر مما نجحت الديكتاتوريات التي عانينا
منها عشرات السنين وما زلنا نعاني منها في بعض بلداننا. فعندما زار أردوغان مصر والتقى
باسلامييها ونصحهم بقبول الديمقراطية مع العلمانية كرزمة واحدة كان واضحاً رفض القواعد
الإسلامية لنصيحته.
إذن ما العمل؟
الشعوب العربية المنتفضة لا تريد أياً من النماذج الإسلامية المطروحة أمامها
لا الإيراني ولا الطالباني ولا السعودي ولا حتى التركي، والإسلاميون اليوم أمام فرصة
لقيادة شعوبهم نحو حياة أفضل سيكون من الغباء أن يضيعوها وإن كانوا مدركين أن الوقت
لم يزل غير مناسب لا على مستوى الشعوب العربية ولا على مستوى المؤثرات الدولية التي
ما زالت لها كلمتها في تحديد مصير بلادنا لتطبيق الشريعة الإسلامية. لا بد لنا من مخرج
لا نضحي فيه بديننا كما لا نضحي من أجله بشعبيتنا وتطلع الجماهير العربية إلى الخلاص
من واقعها الأليم على أيدينا.
مقالي هذا هو لوصف هذا المخرج وإن كنت سأؤجل التفصيل في تأصيل ما سأقترحه إلى
القسم الثاني من هذا الكتاب الذي أخصصه للتأصيل المفصل لمن يرغب في معرفة الأسس التي
تقوم عليها الأفكار والتصورات التي سأقدمها في هذا المقال.
أولاً سأقدم تصوري للدولة الإسلامية التي يجب أن نسعى إليها لو كنا نعيش في
مجتمع جميع أهله مسلمون ومتدينون ومن مذهب واحد.
مفتاح الحل يكمن في إعادة الاهتمام بكلمة وردت مرات عديدة في القرآن الكريم
نتلوها ونمر عليها دون تدقيق في معناها وكأنها واضحة لنا وضوح الشمس ولسنا في حاجة
إلى التمعن فيها. إنها (الحكمة) التي يقول تعالى إن الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل
الذين جاؤوا قبله إنما جاؤوا ليعلموها للناس مع الكتاب، ولنتأمل هذه الآيات الكريمة:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } البقرة129
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } البقرة151
{.... وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ
وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ
اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } البقرة231
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالإِنجِيلَ } آل عمران48
{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ } آل عمران164
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ
اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم
مُّلْكاً عَظِيماً } النساء54
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } النساء113
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ...} المائدة110
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} الأحزاب34
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } الجمعة2
إذن الرسل جاؤوا ليعلموا الناس شيئين اثنين (الكتاب) و (الحكمة)، الأول: الكتاب
وهو ما يكتب عليهم من فرائض ومحرمات وعقائد، والحكمة هي ما يمكنهم الوصول إليه بأنفسهم
من خلال العلم والتفكير السليم والخبرة الحياتية الطويلة لكن الرسل يقدمون للبشرية
دفعة وجرعة من هذه الحكمة تسرع تقدمها وتطورها نحن حياة أفضل لجميع أبنائها. وهكذا
نجد أن ما جاء به الرسل بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم نوعان من الأمور: نوع ما
كان للبشر أن يكتشفوه بأنفسهم مهما طال بهم الزمن والتجارب وهو معرفة الغيبيات ومعرفة
ربنا وصفاته وأسمائه ومعرفة الأوامر التي يريدنا الله أن نعبده بطاعتنا لها ومعرفة
أخبار من قبلنا الذين اندثرت آثارهم وصار يستحيل علينا بعلومنا المحدودة أن نعرفها
معرفة يقينية وغير ذلك مما جاء في القرآن والسنة، أما النوع الثاني فهو الكثير من الارشادات
والنصائح والتعليمات المفيدة لنا في حياتنا من أجل دنيانا ومن أجل آخرتنا، لكن كان
من الممكن لنا أن نكتشفها بأنفسنا.
من علمائنا القدامى من فسر الحكمة الواردة في الآيات السابقة بالسنة النبوية
على اعتبار أن الكتاب هو القرآن الكريم، لكن هذا تأويل وصرف للفظ الحكمة عن ظاهره ومعناه
المباشر دون داعٍ وبخاصة أن القرآن الكريم جاء بلغة العرب التى هي أقدر اللغات على
التعبير الدقيق الذي لا يلتبس على الأفهام
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يوسف2.
الحكمة هي الحكمة والأمانة هي الأمانة.. إن استقام لنا فهم كلام ربنا دون صرفه عن ظاهره
فإنه لا يصح أن نتأوله ونفسره بغير المعنى القريب المباشر لألفاظه.
وهذا يعني أنه ليس كل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو دين مفروض علينا
نأثم بمخالفته ويتوجب علينا تنفيذه والتقيد التام به، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما
يأمر أصحابه أن يطفئوا السراج إذا ناموا ويحذرهم أن الفأرة قد تصدمه وتقلبه فيشتعل
حريق خطير وهم نائمون ما كان يشرع لهم دينا بالمعنى الحرفي للدين، إنما كان يقدم لهم
شيئاً من الحكمة المفيدة لهم ويعلمهم كيف يفكرون التفكير السليم بأمور معاشهم، لذا
أخطأ صلى الله عليه وسلم عندما أبدى رأيه في تأبير النخل (أي تلقيحه) حتى يثمر فعمل
الصحابة برأيه وتركوا تأبير النخل فلم يثمر، فأخبرهم بعدها أن ما يحدثهم به عن الله
حق هو معصوم فيه من الخطأ، حيث قال فيما رواه مسلم في صحيحه: "إن كان ينفعهم ذلك
فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً
فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل". وفي رواية أخرى أنه قال: "إنما
أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
أما أمور دنياهم فهم أعلم بها منه كما قال في رواية ثالثة.
مع ذلك جاء الإسلام بفرائض وتحريمات تحقق للناس منافع ومصالح كان يمكن لهم عندما
تتقدم علومهم ومعارفهم أن يكتشفوها بأنفسهم، ومثال ذلك تحريم الربا وفرض الزكاة.. إنني
أدعوكم للتأمل في الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية وكيف تحاول البشرية حلها والتغلب
عليها من خلال تشريعات وإجراءات ليست إلا صورة من صور الزكاة وتحريم الربا. الفوائد
المصرفية في أوربا ما تزال بحدود نصف بالمئة، أي تقترب من الإلغاء، والحكومات تضخ الأموال
لتنعش قدرة الناس الشرائية لتحمي الكثير من الشركات والمصانع من الإفلاس الحتمي لو
زاد الركود عن حد معين وقل تصريف البضائع، وهو الشيء ذاته الذي تفعله الزكاة في الإسلام
حيث ترفع قدرة الناس الشرائية ليعود المال الذي ينفقه الأغنياء بالنفع عليهم وعلى مشاريعهم
التجارية والصناعية.
تحريم الربا وفرض الزكاة شيئان نافعان كان يمكن للبشرية أن تصل إليهما بنفسها،
لكن الخالق الرحيم أراد أن يحمينا معشر المؤمنين به والطائعين له من أن نتعلم من كيسنا
-كما يقول المثل - ومن أن ندفع الأثمان الباهظة قبل أن نكتشف تلك الحقائق، فشَرَّعها
في دينه وفرضها علينا وجعل التزامها عبادة يختبر بها طاعتنا له فيثيبنا عليها، ولأن
أهواءنا قد تعمي أبصارنا فنتجاهل أضرار بعض الممارسات وننغمس فيها بقصد المنفعة الشخصية
العاجلة لنقود المجتمع كله إلى الأزمات والمعاناة. الفرائض والتحريمات في دين الله
لها غايتان لا تتعارضان، الأولى: أنها تعبدية لاختبار طاعة المؤمنين لربهم وعدم استكبارهم
عن تنفيذ أوامره، والثانية: إصلاح أحوالهم المعيشية، ولنأخذ مثالاً الخمر والميسر.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ} البقرة219.. ونحن نعلم من السيرة أن هذه الآية لم تحرِّم الخمر والقمار
مع أنها بينت أن أضرارهما أكثر من منافعهما، ونعلم أن كثيرين من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم استمروا في تعاطي الخمر ولعب القمار رغم الآية الكريمة لأنهم كانوا
مدمنين، والمدمن يجد صعوبة في الإقلاع عما أدمن عليه، وقد مضى زمن ليس بالقصير قبل
أن تنزل آية أخرى تحرم الخمر والميسر بشكل نهائي وقاطع.
كان الناس في حاجة إلى التحريم الذي يفرضه ربهم الرحمن عليهم دون انتظار أن
يصلوا إليه يوماً ما بأنفسهم، وذلك من أجلهم ومن أجل مصلحتهم الدنيوية قبل مصحلتهم
الأخروية. والله لم يحرم علينا إلا الخبائث التي أضرارها أكبر من منافعها، واعتبر التزامنا
بهذا التحريم الذي هو من أجلنا ولحمايتنا، عبادة له يعطينا عليها الجنة، مع أننا إن
كنا عقلاء سنمتنع عن هذه المحرمات من أنفسنا لأننا مفطورون على الحرص على ما ينفعنا.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ
أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف157.
لكن من رحمة ربنا ولثقته بنا وبحكمتنا لم يكثر علينا من الفرائض والتحريمات،
بل سكت عن الكثير من الأمور وتركها لنا ولحكمتنا، أي الكثير من الأمور بقيت معلقة في
مرحلة {وإثمهما أكبر من نفعهما} حيث تفرض علينا عقولنا بما جبلت عليه من حكمة أن نبتعد
عنها دون أن يكون وقوعنا فيها مدعاة للعقاب في الآخرة، إذ تكفينا العقوبة الحتمية التي
تقع علينا عندما نرتكب تلك الأمور التي ضُرُّها أكبر من نفعها، فالذي يدخن التبغ من
أجل المتعة عقوبته حتمية من خلال الضرر الصحي الذي يصيبه نتيجة التدخين دون أن يكون
للتدخين حكم شرعي من تحليل وتحريم.
نعود إلى قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} لنتبين أصلاً عظيماً من أصول
ديننا لم ينتبه له القدماء وهو مجيء لفظ إثمهما كضد لنفعهما، أي جاء لفظ الإثم مكان
لفظ الضر حيث الضر هو الذي ضد النفع، وهذا يعني أن الإثم والضّر يحل كل منهما محل الآخر
في الإسلام، وبالتالي لم يحرم علينا ربنا إلا ما هو ضار لنا ولا يمكن أن يحرم علينا
شيئاً نفعه أكبر من ضره. وهكذا نجد الإسلام دين الفطرة والعقل والمنفعة بخلاف باقي
الأديان التي قد تمتحن الناس بتحريمها عليهم بعض ما ينفعهم أو بفرضها عليهم بعض ما
يضرهم.
ولا عجب إن لم نجد في القرآن والحديث الشريف مفهومي الخير والشر كمفهومين مطلقين
كما هو الحال في الأديان والمعتقدات الأخرى. لا شيء هو خير أو شر بشكل مطلق، بل هنالك
ما هو خير لنا من حيث غلبة المنفعة لنا فيه على المضرة وهنالك ما هو شر لنا من حيث
غلبة الضرر فيه لنا على النفع. هنالك خير وشر بالنسبة لنا نحن البشر حيث الخير هو النفع
وحيث الشر هو الضرر، أما بالنسبة إلى الله فالأمور كلها متساوية لأنه لا شيء قادر على
نفعه ولا شيء قادر على ضره فهو الصمد الغني القدير.
يقول ابن حجر في فتح الباري: واخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه «إن الله
فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلاتعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا
تبحثوا عنها» وله شاهد من حديث سلمان اخرجه الترمذي، وآخر من حديث ابن عباس أخرجه أبو
داود. وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر، أخرجه البزار في مسنده والحاكم
من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أحل الله في كتابه فهو
حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم
يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسياً ) مريم : 64))، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البزار: إسناده صالح .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «الحَلالُ بَيِّنٌ، وَالحَرامُ
بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعْلَمُها كثيرٌ منَ الناسِ. فمنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ: كراعٍ يَرْعَى حَوْلَ
الحِمى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه. ألا وإِنَّ لِكلِّ مَلكٍ حِمى، ألا إِنَّ حِمَى اللهِ
فِي أرضِهِ مَحارِمُه. ألا وإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ
كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كله، أَلا وهِيَ الْقَلْبُ». وقال أيضاً: {الحلالُ
بيِّنٌ، والحرامَ بينٌ وبينهما أمورٌ مُشتبهة. فمَن ترَكَ ما شُبِّهَ عليهِ منَ الإثمِ
كان لِما استبانَ أتْرَكَ ومنِ اجْترأَ على ما يَشُكُّ فيه منَ الإِثمِ أوْشَك أن يُواقِعَ
ما اسْتبانَ. والمعاصِي حمى الله، مَن يَرْتعْ حَولَ الحِمى يُوشِكْ أن يُواقِعَه}.
وقال تعالى: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً...}
المائدة3
أي الدين كامل بما هو بَيِّنٌ من حرام وحلال بموجب النصوص القرآنية والحديثية
قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وما سوى ذلك لا داعيَ للبحث عن حكم شرعي له إنما هو مما
سكت الله عنه رحمة بنا، وتركه لحكمتنا وعقولنا التي ركب فيها حبنا لما هو نافع وكرهنا
لما هو ضار، وهذا ما يجب أن نتقيد به إن أمكننا أن نقيم دولة إسلامية صافية دينياً.
أي ندعو الناس إلى الحلال البَيِّن وننهاهم عن الحرام البَيِّن ولا نقحم الدين فيما
سوى ذلك من أمور مستجدة أو قديمة سكت عنها الشرع وتركها لنا نختار فيها الخير ونتجنب
الشر.
روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً
يَبْتَغِي فِيِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ
لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ
لَهُ مَنْ في السَّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ في المَاءِ، وَفَضْلُ
العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ
العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إنَّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرَّثُوا دِينَاراً
وَلاَ دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ
بِحَظٍ وَافِرٍ}. وهكذا يكون علماء الدين ورثة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أمور الكتاب
ويكون علماء الدنيا من طب ونفس واجتماع واقتصاد وسياسة وغيرها من العلوم ورثة النبي
صلى الله عليه وسلم في أمور الحكمة. رسالته تألفت من الكتاب والحكمة وورثته صنفان الأول
يرث دوره في تبليغ الكتاب والثاني يرث دوره في النهوض بحياة الأمة وقدراتها في مجال
الحكمة.
صحيح أن هنالك الكثير من أمور الحكمة صارت من الكتاب عندما فرضها أو حرمها الله
ورسوله بشكل بيِّن كالخمر والميسر والربا، لكن باقي الأمور الحياتية التي لم يرد فيها
نص (آية أو حديث شريف) قطعي الثبوت قطعي الدلالة تبقى في دائرة العفو المتروك لعقولنا
وحكمتنا وعلمنا واكتشافنا، دون تحليل أو تحريم. أي ما ثبت بالدليل القطعي أنه فرض أو
أنه محرم هو الذي نأثم إن خالفناه أما ما سوى ذلك فعقوبتنا عليه تكمن في العاقبة غير
السارة لأفعالنا غير المناسبة، ولا دور لعلماء الشريعة في الإفتاء فيها. وسيكون على
علماء الدين القيام بما يسمى تحقيق المناط مثل التأكد من أن عملية مالية مستجدة ليست
صورة من صور الربا المحرم كالتَّوَرُّق الذي تمارسه المصارف الإسلامية، ومثل التأكد
هل المسابقات التي تجريها بعض الجهات عن طريق قيام الناس بالاتصال الهاتفي بها اتصالاً
يكلفهم أضعاف الكلفة الحقيقية وتستوفي هذه الجهة الجزء الأكبر من هذه الرسوم بعد أن
تقتطع شركة الهاتف رسوم الاتصال وعمولتها على تحصيل الأموال التي تذهب إلى الجهة المنظمة
لهذه المسابقة والتي في النهاية تجري سحباً أو قرعة ليفوز أحد الذين اتصلوا بجائزة
كبيرة واضح أنها تكون من المال الذي جمعته هذه الجهة من المتصلين ليبقى لها ربح كبير،
فيبحث العلماء هل هذه المسابقة صورة من صور الميسر والقمار المحرم أم لا. سيسهر العلماء
على تطبيق الشريعة كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يقوم الفقهاء بتوسيعها
لتغطي كل شؤون الحياة وتعطيه حكماً شرعيا يكون بالضرورة حكماً اجتهادياً الغالب أن
يختلف فيه الفقهاء وتتعدد أحكامهم تعدداً يحير الناس الناس هل الأمر حلال أم حرام.
وهذا يعني أن دور علماء الدين في الدولة الإسلامية يجب أن يبقى محصوراً في تعليم
الناس دينهم وحثهم على الالتزام بما ثبت أنه حلال بَيِّن أو حرام بين، دون أن يبحثوا
عن حكم شرعي لكل أمر، فالخمر والميسر بين الله أن أضرارهما أكبر من منافعهما لكن تركهما
دون حكم شرعي يحرمهما مرحلة من الزمن ريثما تم إعداد الناس لتحريمهما بحكم أنهما مما
تدمن النفوس عليه من عادات يصعب عليها تركه بمجرد أمر ينزل حتى لو كان من رب العالمين.
وأعطي مثالاً التدخين مرة أخرى حيث يكون دور علماء الدين بخصوصه هو نصح الناس وتوعيتهم
لا البحث عن حكم شرعي بتصنيف التدخين على أنه حرام يأثم من يقع فيه إثماً دينياً. هذه
ليست دعوة إلى التدخين لكنها دعوة لحصر دور علماء الدين ودور الشريعة الإسلامية في
ما ثبت تحريمه أو فرضيته ثبوتاً قاطعاً دون أن نقيس ما يستجد على ما ذكر في القرآن
والحديث، بل نتركه خارج دائرة الحلال والحرام، أي خارج دائرة الدين لنكون نحن أعلم
بأمور دنيانا. وهذا يعني تحرر الدولة الإسلامية من هيمنة رجال الدين عليها وتدخلهم
في كل صغيرة وكبيرة فيها بحجة أنهم هم من يعلم حكم الشرع فيها.
وهذا التصور للدولة الإسلامية هو التصور الذي يتفق مع خلق الله للإنسان وجعله
خليفة له في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، ونلاحظ هنا أن الملائكة اعتقدوا أنهم أجدر من البشر بدور
الخلافة عن الله، وفاتهم أن هذا الدور مختلف عن دور الجندية الذي هم خلقوا له حيث لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما الإنسان المُسْتَخْلَف عن الله فدوره يشمل
تحقيق صفات الله في نفسه وأولها الإبداع والاستقلالية ومنها العلم والكرم والاقتدار
والرحمة والانتقام والعدل والصبر وغير ذلك مما هو مبين في أسماء الله الحسنى التي من
أحصاها دخل الجنة.
الله ليس كمثله شيء في حقيقته لكنه من رحمته بنا اختار لنفسه صورة تشبهنا قدم
لنا نفسه من خلالها، لأننا لا يمكننا أن نشعر بالحب المتبادل مع كائن لا نضفي عليه
في خيالنا صفاتنا البشرية، لنشعر بالحب والود له، ولنكون خلفاءه في الأرض نتخلق بأخلاقه
ونحقق في أنفسنا صفاته بالقدر الذي نتمكن منه ككائنات صغيرة جداً ومحدودة الإمكانات
لكنها مُكَرَّمة عند الله. والمشكلة هي في عدم انتباه المسلمين الأوائل لأن الله خلقنا
خلفاء نعبده ونحن نتشبه به بكل صفاته وأخلاقه وإن كان قد حرم علينا منها العظمة والكبرياء،
وظنوا أن الإنسان خلق لعبادة الله على الطريقة الملائكية حيث الالتزام الحرفي بأوامر
الله في كل شيء، وبالتالي ظنوا أن لا بد أن يكون لكل شيء حكم شرعي من حلال أو حرام
أو مكروه أو مستحب، وبفهمهم هذا للإسلام حولوا الإنسان الذي خلقه الله على صورته وجبله
على طبائع تدفعه إلى أن يكون خليفة لله في أرضه إلى جندي ينفذ ولا يعترض، فالخليفة
هو النائب والوكيل عمن استخلفه، والله استخلفنا في الأرض استخلاف اختبار وامتحان لا
استخلاف استعانة فهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه.
هذه أمور وغيرها سأفصل تأصيلها إن شاء الله في القسم الثاني من هذا الكتاب لكن
لا بد من بعض البيان لها لأنها جديدة وغير مألوفة لأكثرنا.
في الدولة الإسلامية المعاصرة ينحصر دور الشريعة في الأحكام الثابتة ثبوتاً
قطعياً لا خلاف فيه بين المسلمين، وتترك باقي الأمور للمسلمين يبحثون من خلال العلوم
المختلفة عن ما هو خير ليفعلوه وما هو شر ليجتنبوه دون أن يعطى له حكم شرعي من تحليل
وتحريم. ومن الأمور القطعية في ديننا من حيث الثبوت والدلالة قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256، وهذا يعني أن الأمة المسلمة لا يتم إكراهها على
تطبيق الثابت من الشريعة إنما للأمة الحق أن تقرر من خلال الديمقراطية إن كانت ستقطع
يد السارق أم ستسجنه، ويبقى الإثم من تعطيل الحكم الشرعي على من صوَّت ضد هذا الحكم،
ولا إثم على من صوَّت لصالحه حتى لو كانت الأغلبية ضد تطبيقه وتعطل في هذه الدولة،
فواجب المؤمن هو في إعطاء صوته لصالح تطبيق أحكام الشريعة لا إكراه الناس عليها بالقوة:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي
رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا
كَارِهُونَ} هود28. لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ومن يريد الجنة عليه التزام
طريق الرشد ومن يسير في طريق الغي يعرض نفسه في الآخرة لنار وقودها الناس والحجارة.
لكن كما هي الديمقراطية يكون فيها تَحَكُّم الأغلبية بالأقلية، ويُفْرَض فيها
على الجميع ما اختارته الأغلبية، فإن دولة الإسلام القائمة على اللا إكراه في الدين
يتوجب فيها على الأقلية الرافضة لتشريع ما أن تخضع له إن نال أغلبية عند التصويت عليه،
ولا مخرج للأقلية من اللالتزام بما تعارضه إلا بالخروج من الأمة والانتماء إلى أمة
أخرى لا تلتزم بهذا التشريع. فمن حرص على الانتماء إلى أمة لا بد عليه من اللالتزام
بما تفرضه الأغلبية فيها سواء قررت الأغلبية تطبيق حكم شرعي معين أو تعطيله، وكل فرد
يتحمل من الإثم ويكون له من الأجر بحسب موقفه عندما طرح التشريع لتصوت الأمة على تطبيقه
أو عدم تطبيقه.
في الدولة التي جميع أفرادها ينتمون إلى أمة واحدة هي الأمة الإسلامية وإلى
مذهب واحد هو المذهب السني مثلاً ولا يعيش معهم على نفس الأرض أمة أخرى كأتباع دين
آخر أو مذهب آخر أو أناس لا دينيون، في هذه الدولة إن كانت ديمقراطية لا بد من خضوع
الأقلية لرأي الأغلبية أحبوا ذلك الرأي أم كرهوه، لأنه لا تكون الديمقراطية إلا هكذا،
ولأنه لا يتحقق مبدأ اللا إكراه إلا من خلال الديمقراطية ومن خلال جعل السيادة أو ما
يسمى الحاكمية للأمة تمارسها من خلال الآليات الديمقراطية. كما لا تتحقق خلافة البشر
لله في أرضه إلا من خلال مبدأ اللا إكراه في الدين واللا إكراه في غير الدين، حتى يقوم
الإنسان بعبادة الله طوعاً وبرغبته وإرادته دون ضغط أو إجبار من أحد.
في الدولة الإسلامية المعاصرة لا إكراه في الدين ولا يعاقب أحد على الكفر أو
على رأيه المخالف في العقيدة أو الفقه وله أن يعبر عنه كما يشاء، طالما أنه لم يحاول
فرضه على الناس ولم يعتد بالسب أو التحقير أو الاستهزاء والسخرية على ما يقدسونه، فحد
الردة ليس حداً ثابتاً وحكماً قائماً إلى يوم القيامة، بل هو استثناء لمبدأ لا إكراه
في الدين مخصوص بقوم معينين وزمان ومكان محددين كما بينت في مقالي الثالث (الطائفية
والثورة في سورية) وكما سأفصل إن شاء الله في قسم (التأصيل) من هذا الكتاب. سيكون الناس
أحراراً في الدولة الإسلامية المعاصرة حرية كاملة لا تقل عن الحرية التي يتمتع بها
الناس في الدول الغربية، ولن تتدخل الدولة في لباس النساء أو حجابهن كما بينت في مقالي
الأول، كما لن يُرْجَم من يزني، بل سنعود إلى الحد الذي شرعه ربنا في سورة النور وهو
جلد الزاني والزانية مئة جلدة، حيث نسخ به الحكم القديم الذي كان رجم الزاني والزانية
إن سبق له أو لها الزواج رجماً حتى الموت. سيصحح المسلمون أخطاءً فقهية وقع فيها أسلافهم،
لا إرضاء للغربين ودعاة حقوق الإنسان، بل لأن هذا هو الدين الحق ودين الرحمة والإنسانية.
الإسلام عندما يجلد الزاني، هو لا يجلده لمجرد أنه زنى، بل يجلده لأنه جاهر بالزنا
إما بالإقرار بالزنا أمام الناس والقاضي أو بممارسة الفعل الجنسي في العلن بحيث يرى
أربعة رجال العملية الجنسية ذاتها دون شك بحدوثها وهذا ما لا يتحقق إلا في المسارح
التي يمارس عليها الممثلون الجنس أمام الجمهور أو الأفلام الجنسية أو ما شابه من المجاهرة
والاستهتار، فالإسلام لا يريد القضاء على الزنا بواسطة الحد الشرعي بل عن طريق التربية
على التقوى والفضيلة وتيسير الزواج، ويبقى الحد لحماية المجتمع من أن يتحول الزناة
إلى قدوة ونموذج للآخرين فتشيع الفاحشة في المؤمنين.
وكذلك حد شرب الخمر سيعاد النظر فيه لنعود به لما كان على عهد الرسول صلى الله
عليه وسلم عقوبة تعزيرية على السُّكْر والخروج بين الناس سكراناً يؤذيهم بصخبه وعدوانيته
وقلة حيائه وشعوره بالعظمة الوهمية التي يعطيها له الخمر، حيث كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يأمر أصحابه أن يضربوا السكران بما تيسر لهم ضرباً يوقظه من سكره ويكسر كبرياءه
الزائفة فيشعر بالذل بدل العظمة ويكون ذلك له درساً يؤدبه حتى إذا شرب الخمر مرة أخرى
استتر عن عيون الناس وكفاهم أذاه ولم يكن قدوة ونموذجاً لغيره يتعلمون منه هذا السلوك
المحرم.
هنالك حدود وأحكام ثابتة لن نتنازل عنها إرضاء لأحد أو حرصاً على إعجاب أحد
بنا مثل قطع يد السارق، فنحن متعبدون بتطبيقها ولن نخشى في الله لومة لائم، لكن لن
نُكْرِهَ أمة عليها بل تُسْتَفْتى الأمة، فإن رغبت الأغلبية فيها بتطبيق هذا الحكم
طبقناه على الجميع، وإن رفضت الأغلبية تطبيقه سقط عنا الإثم وبقي علينا واجب محاولة
إقناعهم بالتطبيق عن طريق الحوار ودون عنف أو إكراه. لا بد داخل الأمة الواحدة من أن
تخضع الأقلية للأكثرية، والبشرية لم تتوصل إلى نظام أفضل من الديمقراطية لتحقق للناس
أكبر قدر من الحرية واللا إكراه دون التحول إلى الفوضى وقانون الغاب.
هذا إن كان سكان الدولة جميعهم أمة واحدة، أي طائفة واحدة، لكن، عندما تتعدد
الأمم في دولة واحدة يختلف الأمر، وهو حال دول مثل سورية يتكون أهلها من أمم مختلفة
نسميها طوائف حيث فيها السنة والعلويون والدروز والإسماعيليون والمسيحيون والشيعة الجعفرية
وفيها الملحدون والعلمانيون واليساريون وغير ذلك من طوائف وأديان ومذاهب. أقول أمماً
مختلفة وأنا أعود إلى الكلمة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الطوائف المختلفة
في الدولة التي أسسها في المدينة المنورة وكتب وثيقة مفصلة تحفظ حقوق الجميع هي بحق
أول دستور في التاريخ. نعم السوريون كلهم يشكلون أمة واحدة هي أمة السوريين، والمُواطَنة
في سورية ستكون على أساس كون الشخص سورياً بغض النظر عن جنسه أو قوميته أو عقيدته.
السوريون أمة كبيرة تتكون من أمم أصغر متنوعة ومختلفة.. هنالك طريقتان ليتمتع فيها
جميع السوريون بالمساواة فلا تفرض فئة منهم قناعاتها ومتقداتها على البقية حتى لو كانت
هذه الفئة هي الأغلبية عددياً وهما: العلمانية وحصر الأديان في العلاقة الشخصية بين
المؤمنين وربهم، أو التعددية التي تتحقق على كافة المستويات سواء منها الثقافية أو
السياسية أو التشريعية على أساس مبدأ اللا إكراه.
فالأولى أن تكون الدولة علمانية لا تسمح بتدخل الأديان في تنظيم شؤون البلاد
وفي تشريع القوانين ويتم حصر الدين في الحياة الفردية كما هو الحال في أوربا وحتى في
تركيا التي أغلب سكانها مسلمون، وهذه هي الطريقة التي حلت بها أوربا مشكلتين فيها:
مشكلة تسلط رجال الدين على المجتمع إلى حد تدخلهم في الآراء العلمية وإعدام العلماء
الذين لا يتراجعون عن آرائهم العلمية التي لا توافق عليها الكنيسة، ومشكلة اضطهاد اليهود
الذين كانوا يعيشون في المجتمعات الأوربية ويتعرضون للتمييز والظلم بسبب اختلاف دينهم
عن دين البقية، وبذلك تم إبداع مفهوم المُواطَنة الذي يعني أن جميع أبناء الوطن لهم
الحقوق نفسها وعليهم الواجبات ذاتها بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، وأدى ذلك إلى
ربط المواطنة بالعلمانية حيث لم يكن ممكناً المساواة بين الجميع بما فيهم الذين تركوا
الأديان ما لم يتم استبعاد الأديان من دائرة التأثير في الحياة العامة والتشريعات والسياسات
المتبعة في البلاد.
السوريون الآن ينادون بالمواطَنة كي يكون لكل سوري من الحقوق ما لغيره وعليه
من الواجبات ما على غيره لمجرد أنه سوري بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو لغته أو دينه.
والإسلاميون السوريون طرحوا برنامجهم السياسي على أساس المواطَنة السورية التي يتساوى
فيها كل السوريين من كل ناحية، لكن باقي السوريين لا يرون المواطَنة قادرة على ضمان
المساواة لهم ما لم تكن الدولة علمانية، إذ من خلال الديمقراطية يمكن للأكثرية السنية
أن تفرض على الجميع قوانين وأنظمة نابعة من معتقدها الديني ويكون على باقي السوريين
الخضوع لها لأن أغلبية السوريين أقرتها وهكذا هي الديمقراطية.
لم ينجح الإسلاميون في سورية ولا في غيرها في إقناع باقي فئات الشعب أنهم مخلصون
في مناداتهم بالديمقراطية والمواطَنة طالما أنهم لا ينادون بالعلمانية، وهم إن نادوا
بالعلمانية فقدوا صفة الإسلامية. فالجميع يظن أن الإسلاميين ينادون بالمواطَنة والديمقراطية
كتكتيك مرحلي ريثما يتمكنون ويصلون إلى الحكم ويحكمون قبضتهم على البلاد والعباد، وعندها
سيعودون إلى معاملة الناس على أساس معتقداتهم، وسينسون المواطَنة وسيتمسكون بالديمقراطية
من دون علمانية لأنها تعطيهم الحق في الانفراد بالسلطة لأن أغلبية السوريين مسلمون
سنة، وعندها تعاني باقي الأقليات من تحكم الطائفة السنية لأنها أكثرية ويكون هنالك
استبداد ودكتاتورية الأغلبية على الأقليات.
ويبقى السؤال: كيف نحقق ديمقراطية لا تطغى فيها الأكثرية على الأقلية ولا تكون
علمانية في الوقت نفسه، والديمقراطية هي في جوهرها حكم الأغلبية؟
إنني وجدت الجواب واضحاً في وثيقة المدينة المنورة التي نظمت حياة سكانها عندما
تحولت المدينة إلى دولة يرأسها محمد صلى الله عليه وسلم. إنه الاعتراف بالطوائف والأديان
لا إنكارها وتهميشها، بل بإعطاء المجال لكل طائفة لتطبق الشريعة التي ترتضيها مهما
قل عددها أو كثر، فهي أمة مع المؤمنين - أي أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء
في الوثيقة - لها الأُسْوَة – أي المساواة
- وكامل الحقوق كأمة من حيث حرية معتقداتها وممارساتها الدينية ومن حيث تطبيقها لشريعتها
الخاصة بها والنابعة من معتقداتها الدينية.
في الغرب العلماني تضمن العلمانية أن لا يطبق المسيحي قوانيناً نابعة من دينه
على اليهودي أو على الملحد، لكن هذه العلمانية تحرم الأقلية المسيحية المؤمنة مثلاً
من أن تطبق على نفسها ما تختاره من شرائع، وهكذا ليست المواطَنة في إطار العلمانية
أكثر عدلاً من المواطَنة في أمةٍ دين الدولة فيها الإسلام ويعيش فيها غير مسلمين، وإن
اختلفت الفئة المظلومة في الحالة الأولى عن الفئة المظلومة في الحالة الثانية. ونحن
إن طبقنا المواطَنة مع العلمانية كما يفعل الغرب تعرضت الأغلبية المؤمنة بالإسلام السني
للظلم حين لا يسمح لها أن تطبق على نفسها الشريعة التي تؤمن بها، وهذا يعني أنه من
أجل الأقليات ستحرم الأكثرية من حقها في تطبيق الشرع الذي تؤمن به على نفسها.
إذن الحل في التعددية بأوسع معانيها بما في ذلك التعددية التشريعية، والتعددية
هي أحدث ما وصلت إليه البشرية من تقدم سياسي وثقافي يضمن الحرية والمساواة لجميع المواطنين
في مجتمع ما. ويبقى السؤال: إن طبقت الأقلية السنية ما شاءت من شريعة على نفسها فهذا
سيعني أن كل السنة بما فيهم الملحدون سيخضعون للشريعة الإسلامية وسيكون ذلك نوعاً من
التمييز والاضطهاد لهم. هذا صحيح لذلك لا بد من الاعتراف بأمة أو طائفة جديدة هي طائفة
السوريين العلمانيين ينتمي إليها من شاء من أبناء الطوائف السورية الذين لا يرغبون
في الخضوع لأية تشريعات دينية، وعندها يكون هنالك قانون مدني سوري علماني بالموازاة
مع أية قوانين خاصة بالطوائف المختلفة سواء في الأحوال الشخصية أو العقوبات أو المعاملات
المالية، ويتم العمل بهذا القانون المدني العلماني - الذي يختاره السوريون بطريقة ديمقراطية
- في كل الحالات التي يكون فيها المتعاملان أو المتخاصمان من الطائفة العلمانية، أو
من طائفتين مختلفتين، ما لم ينص الاتفاق بينهما على الاحتكام لشريعة أحدهما عند الخلاف.
أي سيكون الأصل في الدولة السورية المنشودة أنها علمانية، لكن لكل طائفة من طوائف السوريين
الحق في الاحتكام إلى شريعتها التي ترتضيها وتتوافق عليها بطريقة ديمقراطية، وهذا يعني
أنه سيكون هنالك برلماناً لكل طائفة، لتمارس من خلاله الطائفة كل حقوقها بشكل ديمقراطي
حقيقي دون المساس بحقوق الطوائف الأخرى، وحتى لا تحصل فوضى وتَهَرُّب من الأحكام التي
لا تعجب أحدنا سيكون على كل منا أن يحدد انتماءه الطائفي ويثبت ذلك في سجلات الدولة،
فالسوري يكون إما علمانياً مهما كان أصله الديني، أو سنياً أو مسيحياً أو درزياً أو
علوياً أو إسماعيلياً أو آثورياً أو جعفرياً أو أي معتقد يكون من السوريين من يؤمن
به ويريد أن تتحدد هويته على أساسه. ويبقى لكل سوري الحرية المطلقة والحق في الانتقال
من طائفة إلى أخرى متى شاء على أن يتم ذلك بطريقة رسمية موثقة لدى الدولة، دون أن يخشى
من حد ردة ولا غيره.
في الدولة الديمقراطية التعددية تكون هنالك مواطنة حقيقية تضمن المساواة لجميع
المواطنين وتعطيهم الحقوق نفسها بغض النظر عن معتقداتهم دون أن تمنع المؤمنين من أي
دين من العيش كما يؤمنون ووفق الشرع الذي يرتضون. هو نوع من الحكم الذاتي أو الاتحادي
الفدرالي لكنه لا يقوم على أساس المناطق الجغرافية المختلفة التي توحدت اتحاداً فيدرالياً
لتشكل دولة واحدة، بل يقوم على أساس الجغرافية الثقافية ولو كان أعضاء الطوائف المختلفة
متداخلين أو حتى متزاوجين ويشتركون في المدن والقرى والأحياء، أي ستتمتع كل طائفة بقدر
من الاستقلالية ضمن إطار الدولة السورية الواحدة وتحت عنوان المواطَنة السورية التي
لا تعطي الاعتبار إلا لكون الشخص سورياً. لقد أثبتت الفيدراليات أنها أفضل من الاتحادات
الإندماجية وأقدر على البقاء منها لأنه فيها تتمتع كل منطقة بقدر من الاستقلالية ويكون
إمكانية الظلم وطغيان منطقة على أخرى أقل ما يمكن، وهكذا عندما تكون الأمة السورية
مكونة من عدة أمم بحسب المعتقد الديني أو الثقافي، وتتمتع كل أمة باستقلالية مريحة
لها في إطار دولة علمانية ليس لها صبغة دينية لأنها دولة جميع السوريين، وفي الوقت
نفسه تطبق كل أمة من هذه الأمم الفرعية أي كل طائفة ما تراه مناسباً من تشريعات على
أساس دينها ومعتقدها، يكون الجميع مرتاحاً ومُكَرَّماً ولا تطغى الأكثرية على الأقلية
كما لا تطغى الأقلية على الأكثرية، ويكون الناس حقيقة مصدر السلطات في المجتمع كل ضمن
طائفته، ثم يكون الجميع مصدر السلطات على مستوى الدستور والقوانين المدنية التي لا
تصطبغ بأية صبغة دينية لكنها تفسح المجال لتطبيق كل طائفة لشريعتها الخاصة، وينظم الدستور
هذا التنوع والتعدد بما يضمن حفظ الحقوق والحريات والعدل والمساواة بين جميع السوريين.
وأريد أن أنبه إلى أن التعددية التشريعية على أساس الأديان والمعتقدات لا تتعارض مع
الفيدرالية إن وجد السوريون مصلحة لهم فيها، لكن الفيدرالية تكون على أساس جغرافي تستقل
فيها كل منطقة بإدارة شؤونها وتبقى القوانين التي تنظم حياة كل طائفة من طوائف السوريين
مطبقة في جميع المناطق، وحيث وُجِد المواطن السوري المنتمي لطائفة معينة تطبق عليه
تشريعاتها.
يمكن أن يتشكل البرلمان السوري من مجموع البرلمانات الطائفية بما فيها طائفة
العلمانيين، وهنا أذكر أن طائفة العلمانيين ستضم كل من يرغب بأن ينتمي إليها حتى لو
كان متديناً، طالما أنه يريد التحاكم إلى القوانين المدنية في كل شؤونه بما فيها أمور
الزواج والأسرة والميراث، ولن يكون الانتماء للطائفة العلمانية مساوياً للانتماء لطائفة
الكفار، كما يمكننا إن شئنا أن نسميها طائفة السوريين المدنيين.
سيبقى المجال مفتوحاً للسعي إلى تطبيق الشريعة لكن بالإقناع لا بالإكراه، وعلى
أبناء الدين نفسه لا على أتباع الأديان الأخرى، ولن يكون هنالك ذميون في دولتنا الجديدة
وإن كانت دولة فيها الحرية الدينية الكاملة ويمكن للناس أن يمارسوا فيها السياسة على
أساس الدين، طالما أن فرض الشريعة سيبقى محصوراً ضمن من ينتمي للطائفة السنية ويستثنى
منهم من يضع نفسه في الطائفة المدنية أو العلمانية ولا خلاف على التسمية.
وسيكون لكل سوري الحق في محاولة إقناع باقي السوريين لتبني قانون ما على مستوى
الأمة السورية حتى لو كان هذا القانون مأخوذاً من الشريعة الإسلامية أو من أي عقيدة
أخرى، هو له نيته وذلك بينه وبين ربه، ونحن لنا أن نناقش القانون المقترح وإذا وافقت
عليه أغلبية السوريين فإنه سيبقى قانوناً مدنياً ولو كان في الأصل مأخوذا من دين من
الأديان، لا يهم مصدره حين نريد تطبيقه على مستوى سورية كلها التي لن يكون لها دين
من الأديان بل ستكون دولة لكل السوريين وعلى مسافة واحدة من كل طوائف السوريين. ولا
يؤثر على الثواب الذي نريده من الله على تطبيق تشريع إسلامي ما، فيما لو كان هذا التشريع
قانوناً مدنياً من الناحية الرسمية، فربنا يعلم ما في قلوبنا. المهم أن يكون كل شيء
بلا إكراه ويكون بحرية وديمقراطية حقيقية.
عندها سيكون من حق أي سوري رجلاً كان أو امرأة أن يترشح ليرأس الجمهورية، وسيكون
من حق كل سوري أن يختار منطلقاً في اختياره من معتقده الديني أو مستبعداً الدين وحاصراً
له في الحياة الشخصية. المهم أن يتم انتخاب الرئيس من خلال ديمقراطية حقيقية، وإن كنت
كمسلم أؤمن أنه لا يجوز أن يكون رئيس دولتي غير مسلم فلي الحق في أن أعبر عن ذلك من
خلال صندوق الانتخاب، وإن جاءت الأمور على غير ما أؤمن به كأن ينتخب السوريون امرأة
أو غير مسلم لرئاسة الجمهورية فإنها لن تكون نهاية العالم، لأن رئيس الجمهورية لن يكون
الحاكم بأمره، بل سيكون موظفاً رفيع المستوى في دولة ديمقراطية لا تعطيه الفرصة كي
يستبد ويحكم بهواه، ولن يكون عليَّ وزر أو إثم إن كنت بذلت ما أستطيع من جهد سلمي وقانوني
من إجل إيصال المرشح الذي أرغب في أن يكون رئيساً للجمهورية سواء كان تفضيلي له على
أساس الدين أو على أساس الجنس.
يجب أن يدرك كل منا أنه فرد واحد لا يحق له أن يُكْرِهَ الآخرين على ما يراه
مناسباً، بل له أن يدعوهم إلى ذلك بالكلمة الطيبة، ولن يكون ملاماً عند الله إن لم
يستجيبوا لدعوته، فكم من رسول لم يستجب لدعوته أحد أو استجاب له قلة قليلة فقط. يجب
أن لا نُحَمِّل أنفسنا فوق طاقتنا ولا أن نفرض وصاية على غيرنا، اللهم إلا أن نجبر
أولادنا على الصلاة ضمن عملية تربيتنا لهم حتى إذا بلغوا مبلغ الرجال والنساء توقفنا
عن إجبارهم وعاملناهم ككبار لهم كامل الحرية، إنما ندعوهم برفق وموعظة حسنة لما نعتقد
أنه خير لهم.
في الدولة السورية المنشودة سيكون للناس حرية التعبير عن أي شيء وبالطريقة التي
يختارونها لكن لن يكون لهم حرية السخرية أو شتم أو إهانة الرموز الدينية لأي طائفة
من السوريين حتى لو كان هذا الرمز هو بوذا أو غيفارا، فالله حرم على المؤمنين أن يسبوا
الآلهة والأصنام التي كان مشركوا العرب يعبدونها كي لا يسب هؤلاء اللهَ رداً على سب
المؤمنين لآلهتهم المزعومة، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ
أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ } الأنعام108، أي سيكون لمن شاء أن يجادل بما شاء من أفكار لكن لن يكون
له الحق أن يشتم الله أو الرسول أو القرآن أو الصحابة أو غير ذلك من رموز لأية طائفة
دينية، سيكون هنالك حرية تفكير وتعبير لا يحدها شيء إلا وجوب احترام باقي السوريين
والاعتراف لهم بأنهم {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الكافرون6، أي سيعترف المؤمن
للكافر بحقه في أن يعتقد ما شاء ويعبد ما شاء
دون أن يكون لأحد حق إكراه غيره على اتباعه، فالإنسان كائن مستخلف له الحرية أن يفعل
ما يشاء طالما أنه لم يعتدِ على حقوق الآخرين وطالما أن الله سيحاسبه يوم القيامة فيعطي
الجنة لمن آمن وعمل صالحاً ويدخل النار من استكبر وأصر على الكفر وعصيان الخالق. ولنا
أن ندعوه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق وبالتي هي أحسن، وعلينا عندما ندعوه أن نكون
مخلصين في حبنا للخير له وفي حرصنا على هدايته من أجله لا من أجلنا، ولفائدته لا لفائدتنا،
وعندها ستحقق الدعوة أعظم النتائج بعكس الإكراه الذي لن ينتج إلا المنافقين الكارهين
الذين يتربصون بنا الدوائر. الإنسان مفطور على الاستقلالية ومحاولة إجباره على شيء
تجعله يكره هذا الشيء ويرفضه حتى لو كان فيه الخير له لأنه يريد أن يشعر بحريته واستقلاليته،
قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } يونس99. وسيكون الوالدان هما صاحبا
الكلمة فيما يوجه لأطفالهما من تعليم ديني أو لا ديني، حتى إذا بلغ الأطفال السن القانونية
صاروا هم المسؤولين عن أنفسهم ولهم الحرية التامة في أن يختاروا لأنفسهم كباقي السوريين.
في الدولة السورية المنشودة كما في أي دولة إسلامية صافية دينياً لا مجال للعنف
في سبيل التغيير الاجتماعي والسياسي أبداً، بل الجهاد سيكون كلمة حق عند سلطان جائر،
أي جهاد بالوسائل السياسية اللاعنفية كالعصيان المدني والتظاهر والاعتصام ووسائل الإعلام
وغير ذلك مما لا يمارس فيه القتل أو الإكراه من أي نوع، وهذا لا يتناقض مع أن من قُتِلَ
دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد.
14/06/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق