لم يعد سراً اليوم أن مسرحية (الحرب الأهلية)
في لبنان قد تم إخراجها في منتصف سبعينيات القرن الماضي لتحقق عدة أهداف، أهمها تبرير
دخول جيش النظام السوري والبقاء فيه ليكون (لبنان لآل الأسد لولد الولد). فكان ذلك
مشابهاً لمسرحية ماسمى (الحركة التصحيحية) التي بررت ضم سورية قبل لبنان لأملاك نفس
العائلة. وكان الأسد الأب قد أهدى الجولان لإسرائيل في حرب حزيران 1967 عربوناً لتسهيل
استيلائه على السلطة، ثم عقد مع هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأمريكية في إدارة نيكسون
وفورد، ماعرف فيما بعد بصفقة (لبنان مقابل الجولان).
وقد سمح للأسد الأب حينها (بدخول لبنان) مقابل (مهمة محددة)، لم تعد سراً أيضاً،
وهي بالتأكيد ليس لوقف الاقتتال، بل لتدجين المقاومة الفلسطينية ووضعها تحت الوصاية
السورية، أو إخراجها من لبنان. وقد شهد له العالم كله بتنفيذه الشق الثاني من المهمة
بعد أن رفض ياسر عرفات الموافقة على الشق الأول، ورأينا جنود الاحتلال الإسرائيلي يعبرون
عن امتنانهم للأسد الأب برفع صوره على دبابتهم إبان اجتياحهم للبنان عام 1982.
وكما كان للأسد الأب مهمة محددة مقابل السماح له بالدخول إلى لبنان، فقد وضع
له (شرط محدد) إذا أراد (البقاء فيه)، وهو أن يحافظ على أمن حدود إسرائيل مع لبنان
كما سبق ووعد بالحفاظ على أمن حدود الجولان المحتل. وبما أن اسم (حافظ) يحمل معنى هذا
الشرط، فقد وافق عليه أيضاً، وشهد له العالم كيف نعمت إسرائيل بجولاننا طوال فترة حكمه،
بل وضمته نهائياً لدولتها وأقامت عليه العديد من المشاريع السياحية والاستثمارية. وهو
شئ لايفعله محتل إلا إذا كان واثقاً ولديه ضمانات إقليمية ودولية أن من يدعي بأنه عدوه
لن يطالبه بالأرض أو يحاول استرجاعها في يوم من الأيام.
أما في لبنان، فكان إخراج المسرحية مختلفاً عن الجولان، إذ كان من المفيد (ومن
أجل سمعة المحل كما يقولون) أن تضاف بعض الأحداث المثيرة للعملية لاعطائها سمات (المقاومة
والممانعة). فبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 للتعاون مع النظام السوري في
مهمة تصفية المقاومة الفلسطينية، عاد الإسرائيليون وانسحبوا بعد تنفيذ المهمة، ولكن
ليحتفظوا بشريط حدودي عازل في الجنوب وضعوا لحراسته عميلهم أنطوان لحد وميليشياته المرتزقة.
وقد تبين بعد ذلك أن إسرائيل، وبقيامها بذلك، إنما ساعدت بشكل مباشر أو غير مباشر،
على ظهور وصعود (حزب الله) الذي تعهد بتحرير الجنوب ومنع أي فصيل آخر من مشاركته بالمهمة.
ولكنه سرعان ماأصبح بعد ذلك حليف النظام السوري الأول في لبنان وصادر القرار السياسي
لهذا البلد الذي أنهكته الصراعات الطائفية. كما رفض إلقاء سلاحه حتى بعد إنسحاب إسرائيل
متحججاً بمزارع شبعا التي ادعى أنها لبنانية وأن إسرائيل لم تنسحب منها بعد، في حين
أنها سورية. ولكن سارع النظام السوري ليدعمه بادعائه هذا ليحميه من خصومه الذين طالبوه
بالتخلي عن سلاحه.
بالاضافة للمهمة والشرط اللذين وضعا للأسد الأب مقابل دخوله وبقائه في لبنان،
فقد كانت هناك أيضاً خطوط حمراء إسرائيلية وإقليمية ودولية غير مسموح له بتجاوزها.
أذكر من الإسرائيلية على سبيل المثال منعه من إدخال صواريخ سام المضادة للطيران إلى
مناطق معينة فوق الأراضي اللبنانية، وإبقاء وحدات جيشه على مسافة كافية من الحدود الإسرائيلية.
فالديكتاتور، وكونه في النهاية ليس بأكثر من قرصان، لايمكن لأحد أن يثق بكلامه أو مواثيقه
مئة بالمئة. ومن الخطوط الحمراء الأخرى التي وضعت له كانت بعض الشخصيات السياسية بعينها
والمحسوبة على دول لها نفوذها في لبنان. وقد حاول الأسد الأب جهده جلب هذه الشخصيات
إلى صفه وجعلها تدور في فلكه، فنجح مع البعض وفشل مع الآخر. وفي حالة فشله، كان يحاول
إخراجها من قائمة (الخطوط الحمراء) بعقد صفقات جانبية مع الجهات التي لونتها له بالأحمر
مقابل تغيير اللون. فإذا نجح بذلك، قام بازاحتها من طريقه بتصفيتها بدم بارد لجعلها
عبرة لغيرها. وإذا فشل، فكان لايمل من مواصلة إتصالاته مع تلك الجهات، إما ليبتزها
أو لتقديم عروض مثل (أعطيكم كذا مقابل رأس فلان) أو (أعطيكم رأس فلان مقابل رأس فلان).
وكان لايقدم على تصفية خصومه المصنفين خطوطاً حمراء، إلا بعد أن يكون قد تلقى الضوء
الأخضر من اللاعبين الكبار الذين يقفون ورائهم. وكانت بوصلته دائماً عدم تهديد (أمن
إسرائيل) الذي كان ومازال (أحمر) تلك الخطوط الذي لايمكن تخطيه تحت أي ظرف أو صفقة.
وكما أن مراعاة الأسد الأب لقواعد لعبة (الخطوط الحمراء) مكنته من البقاء في
لبنان لربع قرن وحتى آخر يوم في حياته، فان وصول الأسد الابن إلى الحكم وجهله أو عدم
مراعاته لهذه القواعد، جعله يخرج من لبنان بعد خمس سنوات من حكمه. ويبدو أن الخطأ الذي
ارتكبه وأدى إلى خروجه من لبنان هو تقديره بأن المحافظة على الخط الأحمر المتعلق بأمن
إسرائيل يعطيه الحق بتجاوز بقية الخطوط من دون التوافق مع الجهات المعنية. فالكل يعرف
أن الرئيس رفيق الحريري على سبيل المثال كان خطاً أحمر سعودياً بالدرجة الأولى وفرنسياً
بالدرجة الثانية، أو العكس، وقد وافقتهما أمريكا على جعله كذلك. ولكن وفي (لحظة طيش)،
ظن الأسد الابن، وكونه الابن المدلل لإسرائيل والمجتمع الدولي، أن بامكانه التخلص من
كابوسه المتمثل برفيق الحريري الذي ماتعب من مطالبته بالخروج من لبنان في كل مناسبة.
فقام بتفجيره، كما فعل مع غيره، ورمى بالتهمة على (الارهاب) كما فعل مع غيره أيضاً،
ولكنه لم ينتبه أن هذا الخط بالذات كان (أحمر) مما قدر، وأن التأثرين السعودي والفرنسي
إقليمياً ودولياً كانا أقوى مما ظن. وحتى محاولة إسرائيل أن (تتشفع) له لم تفلح، حيث
كانت من الدول القليلة ممن عارض خروجه من لبنان.
المختصر المفيد هنا أن عمى الألوان الذي أصاب النظام السوري في تعامله مع الخط
الأحمر الخاص بالرئيس رفيق الحريري كلفه أكثر بكثير مما قدر. فبعد أن كان هذا النظام
مقتنعاً بمقولة (لبنان لآل الأسد لولد الولد)، فقد تبين في النهاية هو أن (لبنان بالكاد
بقي لبعض أيام الولد). كما وتبين أيضاً أن الخط الخاص بأمن إسرائيل لم يكن وحده (أحمر)
من في المنطقة.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 28 رجب 1433، 18 حزيران، جون 2012
هيوستن / تكساس
http://sites.google.com/site/tarifspoetry
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق