هم فجروا الثورة ضد الظلم. وكانوا قلّة
ضعيفة في مواحهة جموع الصامتين والشّبيحة الغفيرة، وكانوا أبطالا وكانت أحلامهم
عظيمة. ماتوا قتلا وتعذيبا وهربا، قبل أن تتحقق أحلامهم، لكنّها ظلّت أقوى من
القتل والتشويه والإبادة والتشريد والترويع. ولأجل بطولتهم ونصرة الحق؛ لا يمكن أن
نكتفي بعد كل ما كان بأشلاء حلم؟. لا. ليس بمقدور مكونات القهر والفجيعة والشتات
وقسوة الظروف، أن تسرق منا أحلامهم التي أودعوها أمانة لدينا، فهي مضمومة بأحلامنا
التي تقاسم أحلامهم رحابة السماء الواسعة.
ولأنّنا أمام صورة متناقضة شديدة التّباين، فيها
من يحلم ويقاوم ليظلّ ممسكا بالأحلام الكبيرة. وفيها من يتكاسل ويتسلّى بحلم صغير
ضيق على هامش تلك الأحلام الكبيرة؛ فلابدّ من سير الواقع بعمق وإيجابيّة وتفهّم
الظروف المختلفة لرؤى الثائرين الأبطال والمعارضين والمكتفين بالثرثرة أو الفرجة؛
لكي نشحذ الإرادة بقوّة التغيير والغد، فيشتد عزم المقاومة، ويقوى اليقين بأن من
يصنع التاريخ ليس إلا اصحاب العقول الكبيرة وذوي القلوب الواثقة الجريئة التي توقد
إيمانها وفعلها بنور الأحلام العظيمة، لكي تقطع ظلمة الدرب بإرادة جبارة.
فليس القهر اليومي بقادر على كسرنا، ولا حرب
الإبادة ستلغينا؛ ولن يكون بموسوع البؤس في أماكن النزوح ومخيمات الشتات, أو
الحيرة في سجن الغربة، أوفوضى الاغتراب أن يوقف قطار الحريّة المنطلق نحو آفاق
الغد. وليس بالأمر السهل، أيضا، بعد كل هذه التضحيات وهذا الشقاء إحساس الإنسان
السوري أنّ العالم كلّه قد تخلى عنه. وأنّ النظام الإرهابي يستمر في قتله وتعذيبه،
بينما أطياف من أبناء شعبه في بعض المعارضة الملتمعة مشغولون عنه بقضايا أخرى،
نواتها الطموحات الشخصيّة.
كل ماحصل من قمع وإبادة وتشريد وفوضى وتقاعس
وتجارة بالدم دروس يجب أن نحفظها ونسجل تفاصيلها، لكيلا ننسى، ولكي نتعلّم، ولكي
نتحضّر ونقيم دولة الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية. بالطّبع لا تقوم الدول
المنكوبة على كثير المناظرات وغزير الجدل وعديد الحوارات. ولا تقوم بالخلافات
واستمرار التقاتل الشخصي والاكتفاء بالنوم من أجل استجلاب الأحلام. تقوم بالنهضة
والاستيقاظ. بقوة النضال والكفاح العملي الجاد، وبالعقل التشاركي، وصدق الرؤية،
وبالوفاء الوطني. هناك مصائب وويلات كثيرة؛ لكنّها تجارب ودروس يجب أن تحرّرنا من
تبعات المصائب وأهوال الاستبداد. وطريق النصر، لايأتي إلا بالنضال. لا السوط ولا
السيف ولا المدفع يستطيع قمع الشعوب في أثناء تحرّرها. الإيمان بالحق والجهاد في
سبيله هما قوة المناعة والمنعة.
عندما يستيقظ إنساننا على البؤس والقهر في
الداخل وفي المخيم والشتات؛ فأمامه حلان: إما أن يستسلم ويتحوّل، بعد انتفاضته،
إلى ذليل كسير. أو ظالم يبطش بالضعفاء والمنكوبين ويستغل حاجاتهم الأساسيّة. وإما
أن يتحوّل إلى ثائر حر جريء زاهد في مكاسب الحياة الدنيا. نعم نحن في نكبة
حقيقيّة. فمنكوبة هي دير الزور. ومنكوبة هي حمص. ومنكوبة هي حماة. ومنكوبة درعا.
ومنكوبة إدلب وريف اللاذقية. ومنكوب ريف دمشق وبعض ضواحيها وأحيائها. ومنكوبة
دوما. منكوبة جامعات حلب. ويسأل المشككون والخائفون ماذا بعد؟؟ . والمخيمات حصاد
نكبة. والبشر من هول الفحيعة تذوب أجسامهم وتتحرّق مهجهم. والمعاناة شديدة،
والأوضاع مهينة للكرامة الإنسانية. وبسألون، أيضا: ماذا بعد؟. الجواب: "ليس
أمرا سهلا واقعنا. لكن ليس أمام شعبنا الذي اختار قدره إلا النضال والتعاون
والتوحّد، وحتى لو ناضلنا بسواعدنا نحن فقط، يمكن أن ننتصر ونسقط نظام الإرهاب
المجرم المدعوم محليّا وعربيّا وعالميّا، مادمنا متوافقين على رؤية وطنية واحدة في
جبهة ثورية ناضجة. وسيظل الشعب يقاوم رغم النوائب ورغم تدمير الأحياء وإبادة البشر
ورغم التهجير والتشريد. وستكون قوافل الشهداء والضحايا وآلاف الخيم ظلا للكفاح
الثوري تظلّل الأحرار بالأمل والثقة. ولن تتكسّر الأحلام السورية الكبرى على جدار
سجن الموت في الداخل وسجن الاغتراب في الخارج، مادام الهدف واحدا والعمل متفقا
عليه وسيادة الوطن والشعب هما الأولوية".
علينا الاعتراف بأنّ هناك محنة أخلاقية في
الواقع المحيط بالثورة السورية. داخلاً وخارجاً. سوريّا وعربيّا ودوليّا. فمفهوم
المصالح يطغى، على منظومة المبادىء ، بدءا بكثير من المعارضة وانتهاء بالدول
الكبرى: مصلحة الأشخاص والأحزاب والدول المتورّطة في الأزمة. لا مصلحة الشعب
السوري وسوريا. ولعلّ الأشد إيذاء في المشهد السوري شدة التباين: فهناك في جانب
الثورة صورة الأحرار يكسرون الأصفاد وصورة شعب يثور ويكافح
رغم المخاطر الكبيرة: موت وتدمير وجوع وفقر وعري ومرض. وركام دمار وخيام باليات
ونزوح وتشبيح. . وهناك في عريض المعارضة صورة لكثير من المثرثرين في بروجهم النرجسية يجيدون الخلافات
والتناحر والتقاتل، ويتصارعون على المنصب والمال. ويتنازعون المصالح. ولا يشعرون
بالجرح اليومي النازف للمنكوبين، فيصدرون الأحكام ويتجادلون في ظل من الأمان
النسبي، ويجتمعون في الفنادق الضخمة ويختلقون كثيرا من المشاكل التي تعوّق مسير
الثورة، بدل أن يدفعوا بالثورة إلى طريق النجاح. وهناك صورة أعداد من الصامتين
الذين يغمضون الضمائر على صورة الفجائع. وفي كل هذا لايجد المنكوبون سوى الركام
وأقبية تزدحم بالهاربين. أو سقف خيمة حارقة صيفا، وصقيعاً شتاء.لكنّنا لن نكرّر يأس الأفكار
المأثورة: ماذا يفعل الجائع عندما
تكون لقمة العيش ولحظة الأمان وتنفس الهواء استعبادا له وإذلالا شديدا؟ وماذا يفعل
المنكويون عندما يتصارع إخوانهم المعارضون على هامش مأساتهم من أجل الاستحواذ على
الأمر؟ لماذا وقود الثورة وضحاياها من جموع الضعفاء والفقراء والبائسين
والمهمشين؟.فالأجدى بلورة صيغة عمل جماعي جاد.
لايمكن الاستمرار بهذا الوضع وهذه المفاهيم إلى النهاية. لابد من
العمل على التغيير الجذري. ولابد من تفجير الثورة على الواقع بكلّ واحهاته
المختلفة الرسميّة وغير الرّسميّة التي تتسم بالرجعية والتخاذل والنفعيّة
والعبثيّة والانفعاليّة؛ لكي يتحوّل العفل السوري كلّه إلى قوة داعمة حقيقيّة
للثورة وإغاثة متواصلة مدروسة وعاجلة لمنكوبيها: عسكريا وسياسيا واجتماعيّا وفكريا
وإنسانيّا. وعدم التورط بعواطف مرحليّة وردات فعل، يسيبها الإرهاب الممنهج لعصابة
آل الأسد . ويسبهها العقل التقسيمي والفوقي والتشبيحي والاستغلالي الذي أوجده نظام
الإرهاب في أطياف المجتمع السوري داخلا وخارجا. الثورة تحملها رؤوس الأحرار
والشرفاء والشجعان والبنّاؤون.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق