الولد نعمة
ومنَّة من الله، وهذه النِّعمة تحتاج إلى شكر وحمد، ولا يشعر حقيقة بنعمة الولد
إلا الرَّجل العقيم، والمرأة العقيم.
وبمخالطتي طيف
كبير من الآباء، أرى الكثير منهم يعاني ويشكو من عقوق الأبناء، وعندما أقول لهم:
إنَّكم أنتم السَّبب الرَّئيس في عقوق أبنائكم لكم، يلومونني بردِّي الصَّريح
عليهم، ولو تأمَّلنا واقع الأمر لعلمنا علم يقين، أنَّ المسؤولية الكبرى تقع على
عاتق الآباء، الولد حين يولد صفحة بيضاء، والآباء والمجتمع هم الذين يكتبون فيها
ما يشاؤون.
هناك مثل
الكلُّ يحفظه؛ ألا وهو: "فاقد الشَّيء لا يعطيه"، فالآباء يطلبون من
أبنائهم أن يكونوا على مستوى معيَّن من الآداب والأخلاق، وهم ما نحلوهم خلقاً ولا
أدباً ولا ديناً، فكيف بمن لم يعرف أدباً ولا خلقاً، أن يعامل القريب أو البعيد
بأدب وخلق حسن.
ورضي الله عن
عمر بن الخطاب عندما قدم إليه والد يشكو عقوق ابنه، فاستدعى "جبل العدل"
ولدَ الرَّجل، وبدأ بتأنيبه على عقوقه لأبيه، وتقصيره في حقِّه، فقال الولد: يا
أمير المؤمنين! أليس لي حقوق على والدي، قال له: بلى. قال الولد: وما هي يا أمير
المؤمنين؟.
قال له: أن
يختار أمَّك، وأن يحسِّن اسمك، وأن يعلِّمك كتاب الله عزَّ وجلَّ. قال الولد:
أرأيت يا أمير المؤمنين؟! والدي لم يعطني حقَّاً من حقوقي التي ذكرتها. أمَّا
أمِّي فزنجيَّة، وأمَّا اسمي فسمَّاني جعلاً، وأمَّا كتاب الله فلم يعلِّمني حرفاً
من كتاب الله. عندها التفت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى الوالد، وقال كلمته
المشهورة: قم، لقد عققته قبل أن يعقَّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء لك.
ولا ينس
الوالد؛ فلربَّما كان هو عاقٌّ لوالده، فعاقبه الله بعقوق ولده له، فالجزاء من جنس
العمل، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (ما من ذنب أحرى أن يعجِّل الله لصاحبه
العقوبة في الدُّنيا، مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرَّحم)رواه
الترمذي، وصححه الألباني.
ولقد حدَّثني
رجل كبير السِّنِّ قائلاً: كان لي والد شاخ سنُّه مثلي، وكنت أقوم على خدمته
بنفسي، ولا أسمح لزوجة أو ولد لي أن يقوم بخدمته، حتَّى وصلت به الشَّيخوخة إلى
حدٍّ لا يستطيع القرفصاء لقضاء حاجته، فكنت أمسكه بيديَّ حتَّى يقضي حاجته، وفي
يوم من الأيام طلب قضاء حاجته في وقت الظَّهيرة، في أيام الصَّيف الحارَّة جدَّاً،
فقمت معه كعادتي،
وأمسكت به
ككلِّ مرَّة، ولكنَّني وجدته يتمايل يمنة ويسرة، وهو يتألَّم، فنظرت تحته فإذا
عورته تلمس الرَّمل الحارَّ الملتهب، فما كان منِّي إلا أن أمسكته بيد اليمنى،
ثمَّ دسست يدي اليسرى تحت عورته أقيه حرَّ الرَّمضاء، فقال لي: اخس!. فقلت له: يا
أبتي فعلت ذلك براً ورحمة بك، فقال لي: يا ولدي! أعلم ذلك، ولكنَّك صار لك سنين
تخدمني جزاك الله خيراً، وكلُّ ما فعلته بي أنت، فعلت بأبي مثله إلا هذه، فقد
سبقتني بها.
إنَّ التَّقصير
في تربية الأولاد خلل واضح، وخطأ فادح; فالبيت هو المدرسة الأولى للأولاد، والبيت
هو اللَّبنة التي يتكوَّن من أمثالها بناء المجتمع، وفي الأسرة الكريمة الرَّاشدة
التي تقوم على حماية حدود الله وحفظ شريعته، وعلى دعائم المحبَّة والمودَّة والرَّحمة
والإيثار والتَّعاون والتَّقوى، ينشأ رجال الأمَّة ونساؤها، وقادتها وعظماؤها.
والولد قبل أن
تربِّيه المدرسة والمجتمع، يربِّيه البيت والأسرة، وهو مدين لأبويه في سلوكه
الاجتماعي المستقيم، كما أنَّ أبويه مسئولان إلى حدٍّ كبير عن انحرافه الخلقيِّ.
قال ابن القيم رحمه
الله تعالى: ( وكم ممَّن أشقى ولده، وفلذة كبده في الدُّنيا والآخرة بإهماله، وترك
تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنَّه يكرمه وقد أهانه، وأنَّه يرحمه وقد ظلمه،
ففاته انتفاعُه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدُّنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد
في الأولاد رأيت عامَّته من قبل الآباء([1])).
والتَّقصير في
تربية الولد من الصِّغر، بل قبل أن يولد، أنتج لنا هؤلاء النَّشاز من الأبناء،
الذين صاروا سُبَّة ونكد على أسرهم ومجتمعاتهم، يجب على الأب قبل أن يولد الابن،
ويصبح أباً، أن يفكِّر بالطَّريقة المثاليَّة والصَّحيحة لتربية ابنه، يقول الدُّكتور
محمَّد الصَّبَّاغ: سمعت من مالك بن نبي رحمه الله: أنَّ رجلاً جاء يسترشده لتربية
ابن له، أو بنت ولدت حديثًا، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار، قال: وكنت
أظنُّ بادئ الأمر أنِّه مبالغ، ثمَّ إنِّي عندما نظرت، وجدت أنَّ ما قاله هو الحقُّ،
وذلك أنَّ الولد يبكي، فتعطيه أمَّه الثَّدي، فينطبع في نفسه أنَّ الصُّراخ هو الوسيلة
إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، يظنُّ
أنَّ البكاء يوصله حقِّه([2])).
عندما نقرأ في
كتاب سير أعلام النُّبلاء للإمام الذَّهبي، وغيره من كتب الرِّجال الذين خلَّد
التَّاريخ ذكرهم، كالبخاري، ومسلم، والأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك،
والشَّافعي، وابن حنبل الشَّيباني، وابن تيميَّة، وابن القيِّم، والعزُّ بن عبد
السَّلام، والجويني، وغيرهم من الرِّجال الأفذاذ الأعلام.
إنَّ وراءهم
آباء وأمَّهات ربُّوهم حقَّ التربية، وقاموا عليهم حقَّ القيام، فجنوا من ذلك
ذكراً حميداً بين النَّاس، وشكر الله سعيهم، وسيكرمهم الله إكراماً عظيماً في
الجنَّة، كما ثبت ذلك عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: (من قرأ القرآن، وتعلَّمه، وعمل به، أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور،
ضوؤه مثل ضوء الشَّمس، ويكسى والداه حلَّتين لا يقوم لهما الدُّنيا، فيقولان، بم كُسينا
هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن)رواه الحاكم، وحسَّنه الألباني.
خذ أخي المسلم على سبيل المثال لا الحصر، ثلاث روايات تحكي حال آباء
السَّلف الصَّالح مع أبنائهم، ثمَّ تأمَّل وراجع نفسك في طريقة تربيتك لأبنائك:
الرِّواية الأولى: والد
ووالدة الإمام البخاري مع ابنهما:
سمعت الشَّيخ أبو إسحاق الحويني - شفاه الله- يقول محدِّثاً عن سيرة الإمام
البخاري رحمه الله: عندما حضرت الوفاة والد الإمام البخاري، دعا ابنه الإمام محمد
بن إسماعيل، وقال له: يا بنيَّ تركت لك ألف ألف درهم - مليون درهم - ما أعلم درهماً
فيه شبهة حرام، فأنفقه على نفسك، وعلى زملائك في طلب العلم. ووالد الإمام البخاري لم
يكن أحد العلماء، ولكنَّه كان بصحبة أهل العلم، يحبُّهم ويسير معهم ويحضر مجالسهم،
كان يحضر مجالس مالك، وحمَّاد بن زيد، وابن المبارك. فربَّى ولده على حبِّ العلم
والتَّعلُّم، وعلى تحرِّي لقمة الحلال، لأنَّ أكل الحرام سبب في نسيان العلم،
ولذلك أكرم الله أمَّة الإسلام بالجامع الصَّحيح، وهذا ببركة أكل الحلال، وتربية
الوالد الصَّالح لولده على اغتنام الوقت كلِّه في العلم حتَّى أدَّى كثرة نظر
الإمام البخاري في كتب العلم، إلى فقد بصره، فبكته أمُّه طويلاً، فنامت في ذات يوم،
بعدما غلبها البكاء على ولدها، فرأت إبراهيم الخليل - عليه السَّلام - في المنام فقال
لها: يا هذه إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ردَّ بصر ولدك إليه، من كثرة بكائك ودعائك، فاستيقظت
الأمُّ وإذا ابنها - الإمام محمد بن إسماعيل البخاري- قد ردَّ الله تعالى عليه بصره.
الرِّواية
الثَّانية: والد الإمام الجويني مع ابنه:
سمعت العلامة الشَّيخ: محمَّد الحسن الدَّدو، يتحدَّث في إحدى القنوات
الفضائيَّة فيقول: يُذكر أنَّ والد الإمام الجويني، وهو
عالم من علماء الأمَّة، اتَّفق وزوجته على تناول الحلال والابتعاد عن أيِّ مشبوه، وحصل
أن انشغلت الأمُّ عن ولدها، الذي بكى من شدَّة الجوع، وكانت في البيت جارية مرضعة للجيران،
فأرضعته مصَّة أو مصَّتين، ودخل والده وهي ترضعه فأنكر ذلك، وقال هذه الجارية ليست
ملكاً لنا، وليس لها أن تتصرَّف في لبنها، وأصحابها لم يأذنوا في ذلك، وقلب ابنه وأدخل
أصبعه في حلقه، حتى لم يدع في بطنه شيئاً إلا أخرجه، ولما كبر الجويني، وصار إماماً
للحرمين، تلجلج في الجواب عن سؤال، فكان إلى جوار والده الذي قال له: لعلَّها من آثار
تلك المصَّة من اللَّبن.
الرِّواية
الثَّالثة: والدة الإمام الشَّافعي مع ولدها:
ولد الإمام الشَّافعي
في غزَّة سنة 150هـ، وقد توفي والده وهو لم يتجاوز السَّنتين من العمر، فأخذته أمُّه
إلى مكَّة، عند أعمامه، ونشأ فيها يتيماً، ترعاه أمُّه، التي وجَّهت كلَّ اهتمامها
إلى طلبه للعلم، رغم حاجتهم وعوزهم وفقرهم، فجعلت هدفها وغايتها تحصيل ولدها العلم،
والسَّعي من أجله في كلِّ مكان من أركان الأرض، أرسلته لحلقة تحفيظ القرآن، فأتمَّ
حفظ القرآن عن ظهر قلب، ولم يتجاوز السَّابعة من عمره، ثمَّ سافرت به أمُّه الفاضلة
للمدينة, ليتلق العلم عند الإمام مالك, لعلمها أنَّه أعلم أهل الأرض في زمانه،
وألزمت ولدها حفظ الموطأ قبل قدومه على الإمام مالك، وعندما قدم إليه آواه ورحب
به، عندما وجده متقناً للموطأ، وجلس يطلب العلم عند الإمام مالك تسع سنين، وأمُّه
معه تؤازره وتسانده وتشرف عليه، ثمَّ رحلت معه في الأمصار المختلفة، حتى خرَّجت
هذا العلامة النِّحرير الذي ملأ الدُّنيا علماً وفقهاً، قال الإمام أحمد بن حنبل
في فضله وعلمه:
( ما مسَّ أحدٌ
محبرة ولا قلماً؛ إلا للشافعيِّ في عنقه منَّة )، صدق من قال: وراء كلِّ رجل عظيم
امرأة. تلك تربية آباء السَّلف وأمَّهات السَّلف لأبنائهم.
فأين تربيتنا في
هذه الأعصار المتأخِّرة من تربية سلفنا الصَّالح الذين خرَّجوا لنا أكرم جيل، وأفضل
رعيل، لا يدانيهم أحد من بعدهم، ولا يبلغ شأوهم غيرهم.
فمن كان وراء هؤلاء
الأبطال، ومن الذي صنع هؤلاء الرِّجال؟.
إنَّنا لو سبرنا
أحوالهم، وتتبعنا سيرهم؛ لوجدنا أنَّ وراء كلِّ واحد منهم أباً عظيماً، أو أمَّاً عظيمةً،
يربون أولادهم على تطلاب الكمال، ونشدان المعالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق