الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2012-05-22

أنتَ بالرُّوح لا بالجسمِ إنسانُ - بقلم: سعد العثمان


الإنسان باختصار قبضة من تراب الأرض، ونفخة من روح الله، فهو مخلوق من مادَّة وروح، ولا حياة له سعيدة هنيئة إلا إذا وازى بين المادَّة والرُّوح، فلو غلَّب جانب المادَّة على جانب الرُّوح شقي وخاب وخسر، ولو غلَّب جانب الرُّوح على جانب المادَّة تعب وفتر وملَّ.

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهل، والحزن، والخبيث، والطَّيِّب» رواه أحمد، والتِّرمذي، وأبو داود، وصححه الألباني.


ولذلك لا بدَّ للإنسان من الاعتدال والتَّوسُّط، ولا بدَّ له من معرفة تامَّة بحقيقة نفسه، حتَّى يحسن قيادتها ورياضتها، فالنَّفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت إلى حبِّ الطَّاعة فأجهدها بها، وإذا هي أدبرت عنها فالتمس طريقاً مناسباً لرجوعها، ولا تكن عنيفاً في التَّعامل معها.

عن حنظلة بن الرَّبيع الأسيديِّ قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يذكِّرنا بالنَّار والجنَّة كأنَّا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، نسينا كثيراً. قال أبو بكر: فو الله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتَّى دخلنا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله!. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «وما ذاك؟». قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنَّار والجنَّة كأنا رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. رواه مسلم.

إذاً إن أردت السَّعادة الحقيقيَّة؛ فوازن بين المادَّة والرُّوح، ولا تغلِّب أحدهما على الآخر فتهلك، فالمادِّيُّون عندما خدموا الجسد، وأهملوا الرُّوح، عاشوا أخسَّ وأرذل من الحيوانات، وها نحن نرى ونشاهد ونسمع عن تصرُّفاتهم البهيميَّة صباح مساء، يأكلون ويشربون ويتسافدون تسافد الحيوانات على قارعة الطَّريق، دون حياءٍ أو خجل، هكذا ينحطُّ الإنسان من مقام الإنسانيَّة إلى الحيوانيَّة، ويمارس فعل الحيوان لأنَّ الحيوان لا همَّ له إلا أربع: العلف، والشُّرب، والنَّوم، والسِّفاد. بل نجد أنَّ الإنسان الحيوانيَّ يزيد عن الحيوان بأفعال يأنف منها الحيوان كشرب الخمور والمخدِّرات، وفعل الموبقات المهلكات التي تكون نتيجة حتميَّة لتعاطي المسكرات، فالخمر أم الخبائث، يفعلها الإنسان، وينأى عنها الحيوان.

ثمَّ لو أنَّنا نظرنا للإنسان نظرة مادِّيَّة بحتة، لوجدناه لا قيمة له ولا وزن، يقول الشيخ: محمد الغزالي رحمه الله في كتابه: نظرات في القرآن الكريم، ص: 47: الإنسان مكوَّن من عناصر الأرض المعروفة وهي: الدُّهن، والكربون، والفسفور، والملح، والماغنسيوم، والحديد، والجير، والكبريت، والماء، وإليك مقاديرها في جسم الإنسان:

ـ فيه قدر من الدُّهون، ما يكفى لصنع 7 قطع من الصَّابون.
ـ وفيه قدر من الكربون، ما يكفى لصنع 7 أقلام رصاص.
ـ وفيه قدر من الفسفور، ما يكفى لصنع رؤوس عود كبريت، عدد 150 عود كبريت.
ـ وفيه قدر من الماغنسيوم، ما يصلح لجرعة واحدة لأحد المسهِّلات (جرعة أملاح).
ـ وفيه قدر من الحديد، ما يكفى لصنع مسمار واحد متوسط الجحم.
ـ وفيه قدر من الجير، ما يكفى لتبييض عشَّة دجاج صغيرة.
ـ وفيه قدر من الكبريت، ما يكفى لتطهير جلد كلب واحد من البراغيث التى تسكن شعره.

ـ وفيه قدر من الماء، ما يملأ برميل سعته 10 جالونات، بالإضافة الى مواد أخرى ( زرنيخ، بوتاسيوم، سكر، ومواد أخرى )0

وإذا قمنا بحساب كلِّ هذه المواد فإنَّها لا تساوى كلُّها إلا بضع دريهمات.
تلك هي قيمة الإنسان الماديَّة.

إذاً لا بدَّ من التَّوازن والاعتدال، حتَّى في جانب الرُّوح، فعندما يغلِّب الإنسان جانب الرُّوح

على المادَّة ينحرف ويضيع ويشطح، انظر ما فعل الرُّهبان من تعذيب أنفسهم، يقول الشَّيخ: أبو الحسن النَّدوي في كتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟ ص: 168: روى المؤرِّخون من ذلك عجائب، فحدَّثوا عن الرَّاهب ماكاريوس: أنَّه نام ستَّة أشهر في مستنقع؛ ليقرض جسمه العاري ذبابٌ سامٌّ، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الرَّاهب يوسيبيس: يحمل نحو قنطارين من حديد...، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح... وقد عبد الرَّاهب يوحنَّا: ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدَّة، فإذا تعب جدَّاً أسند ظهره إلى صخرة. وكان بعض الرُّهبان لا يكتسون دائماً، وإنَّما يتستَّرون بشعرهم الطَّويل، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السِّباع، والآبار النَّازحة، والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدُّون طهارة الجسم منافية لنقاء الرُّوح، ويتأثَّمون عن غسل الأعضاء، وأزهد النَّاس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطَّهارة، وأوغلهم في النَّجاسات والدَّنس، يقول الرَّاهب إتهينس: إنَّ الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرِّجلين طوال عمره، وكان الرَّاهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الرَّاهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: واأسفاه، لقد كنَّا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمَّامات. وهناك راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع، يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق.

وأمَّا القديس كولمبان: كانت السَّناجب تجثم على كتفيه، فتدخل في قلنسوته وتخرج منها وهو ساكن لا يذبُّها.

يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الملك: 14.
فالله خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه وما يفسده، وصلاحه وسعادته في هذه الحياة أن يعيش موازناً بين المادَّة والرُّوح، قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ القصص: 77.

والمتأمِّل المتدبِّر في كتاب الله يجد حقيقة عظيمة؛ ألا وهي: أنَّ الله جلَّ وعلا حتَّى في الآخرة، إذا أنعم وأكرم عبده بالجنَّة نعَّمه بالمادَّة والرُّوح معاً، وكذلك إذا عذَّبه عذَّبه بالمادة والرُّوح أيضاً، فهو رحيم ودود بمن أطاعه، شديد العذاب والعقاب على من كفر به وعصاه.

أمَّا تنعيمه لعبده لمادَّة الجسد، يتمثَّل في أن يأكل ويشرب ويتلذَّذ بكلِّ الملذَّات التي يشاء ويريد ويتمنَّى، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاالفرقان: 15 – 16.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصَّالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. واقرؤوا إن شئتم: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ السجدة: 17. متفق عليه.

وأمَّا تنعيمه لروحه، فيتمثَّل في لذة النَّظر إلى وجه الله الكريم، يقول الله تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَيونس: 26. الزِّيادة عند معظم المفسرين: هي لذَّة النَّظر إلى وجه الله الكريم.

عن صهيب رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الآية: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وقال: ( إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّار النَّار: نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة! إنَّ لكم عند الله موعداً، يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقِّل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنَّة، وينجِّنا من النَّار؟ قال: فيُكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً، أحبَّ إليهم من النَّظر إليه ولا أقرَّ لأعينهم)رواه ابن ماجة في السُّنن، وصحَّحه الألبانيُّ.

وأمَّا تعذيبه للكافر والعاصي بالمادَّة، يتمثَّل في تحريق جسده بالنَّار، قال الله تعالى: ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَاالنساء: 56.
عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ( إنَّ أهون أهل النَّار عذاباً، من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أنَّ أحداً أشدُّ منه عذاباً، وإنَّه لأهونهم عذاباً)رواه مسلم.

وأمَّا تعذيبه لروح الكافر والعاصي، فقد ذكر القرآن الكريم صورتين هما:
الصُّورة الأولى: حجبهم عن النَّظر إلى وجه الله الكريم، وهذا تعذيب للرُّوح أيَّما تعذيب، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ المطففين: 15.

الصُّورة الثَّانية: عندما يستصرخ أهل النَّار، ويستشفعون بمالك خازن النَّار، ويتأمَّلون منه أن يشفع لهم عند الله، فيردُّ عليهم ردَّاً تتفطَّر منه أكبادهم، وينزل عليهم من الغمِّ والكرب والحزن ما لا يعلمه إلا الله، قال الله تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَالزخرف: 77. وعندما ينادون الله جلَّ وعلا ويستغيثونه، يرد عليهم ردَّاً لا رحمة فيه ولا شفقة، قال الله تعالى: ﴿قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ * رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ * قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِالمؤمنون: 106 – 108.

من خلال العرض السَّابق يتضح ويتبين لنا: أنَّ سعادتنا في الدُّنيا والآخرة تكون بالموازنة بين متع الجسد، ومتع الرُّوح، دون شططٍ أو حيف أو تغليب أحدهما على الآخر، بل نسير بهما معاً  كجناحي الطَّائر حين طيرانه، حتَّى نصل إلى ربِّنا بأمان وسلام.

أختم بقول الشَّاعر:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمتـه          أتطلب الرِّبح ممَّا فيه خسـران
أقبل على الرُّوح واستكمل فضائلها          فأنت بالرُّوح لا بالجسم إنسان




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق