تتخذ عمليّة العلاج، أحيانا، طريقا طويلة وموجعة؛
فيخال المريض أو أهله، أنْ لا شفاء من المرض، ولا مفرّ من الهلاك؛ لكنّ العلاج، عندما
ينجح، يتخطّى مشقة الألام الشديدة الطويلة؛ فيتخلص الجسد عبر الأوجاع من أسباب علته
ومرضه.
ويصل المريض، بعد أزمة الشك إلى الشفاء. كذلك
حال ما يجري مع الشعب السوري في ثورته على الاستبداد والإجرام والذل. إنّها عمليّة
علاج صعب؛ وتطول مدة صراعه، وتشتد المعاناة وسط العنف، وتزداد المخاوف من التهلكة والفشل،
وتعلو الأصوات االتي تصف الثورة بالنقمة...ويتعمّف الشعور بالعجز وغياب اليقين؛ لكنّا
ننسى أنّ الشفاء من من الأمراض الخطيرة التي أسست لها منظومة الاستبداد، ودعمتها بالفساد
والطمع والتشبيح والسمسرة والتسلط والجهل، لايتحقق بلا معاناة وصراع.
إنّا في الأزمات نعرف الرجال ومعدن الأبطال
والشرفاء ، ولولا الثورة ما عرفنا من هم الأوفياء للوطن؛ فلماذا لا نحكم على الأمور
في مسارها الطبيعي، ونعترف أن ثورتنا عرّت الحقيقة، وتكشفت فيها الرذائل الوطنيّة والجرائم
الإنسانيّة واضحة من دون حياء . ليس في ثورتنا استعصاء بالمعنى الدقيق. بل هي عمليّة
التعرية التي لابدّ منها تحت ريح التغيير العاتية. وفي التعرية يصبح وضوح التغيير صارخاً،
وتتبدّل الوقائع. ولأن الثورة تفجّرت في مجتمع مريض فاسد استبدادي، ضد كل ما هو قائم
في دائرة الاستبداد، فمن المتوقّع أن يأتيها من الواقع بعض البلل الفاسد. سيحاول الفاسدون
الاندساس في الثورة للانتفاع والتخريب وانتهاز الفرص. . وقد يلحق موكبها زمرة من الانتهازيين
والمرضى والمنحرفين والسماسرة والمتسولين؛ لكّنهم كالكلاب الضالة, ستسير القافلة، لا
تبالي بنباحهم وسعارهم؛ وعند اللزوم وفي لحظة الخطر تتخلّص منهم، بلا تردد.
الثورة ستنتصر، لكن لن يكون النصر هادئا سريعا،
فعملية الانتقال والتغيير ليست بالأمر السهل، وهي تتطلب هز المجتمع الغارق في أمراضه
وخدره وصمته.
وأي نظام في العالم لا يخلو من فساد ما. والثورة
أمر عظيم؛ لكنها ليست الخير المطلق ولا الكمال المطلق، وهي على الرغم من تاريخيتها
وحتميتها، مرتبطة بالطبيعة البشرية التي فيها الضعف والنقص والزلل والعاطفية، لذلك
تضطر إلى إجراء عمليات جراحية قاسية في أثناء العلاج، تحت ضغط الخطر، لكي تحقق الشفاء.
وقد كشفت الثورة عن عورات المعارضة، و عن الأمراض
الكثيرة المنتشرة في شعبنا نتيجة عقود الاستبداد، وعن قنوات الفساد التي يدعمها النظام
وأعوانه لشق صفوف الثورة، وهي، فوق ذلك، ستكمل مسيرها في عمليّة التثوير والتغيير والتحويل.
الثورة هي الآن في معركة الحسم الداخلي لعدة أمور، وعلى رأسها، تهيئة لقيادة
السياسية الموحدة للثورة، ولمّ الكتائب المسلحة المقاتلة على الأرض تحت راية واحدة
، وذلك لكي تتخلص من حالة الفوضى والفراغ القيادي اللذين أسهما في اختراق الثورة من
قبل العصابات وتجّار الحروب وفقراء النفس الجشعين،
وقي استغلال موضوع التسليح والإغاثة.؛ فقد
اختلطت الأمور في الجانب العسكري وفي الجانب الإغاثي، مثلما اختلطت، من قبل، في صفوف
المعارضة.؛ لأنّ الفوضى تستجلب كل شيء من الرديء
إلى الجيد؛ من الأفراد الانتهازيين والمتكسبين
إلى الكتائب الطائفيّة والعصابات الإجراميّة،
حتى المجالس المشكوك في أمرها. وتجّار الحروب.
والفوضى حالة مثالية للمخابرات والجهات الخارجية لتلعب دورها في تفتيت الثورة وتقسيم الشعب..
التقييم الموضوعي للأمر، كلّه، أمر
ملح حتى لا نحاصر أنفسنا وثورتنا بالخيبة نتيجة
اتهامات الطائفية والسلفية والقاعدة. صحيح أنّ الكتائب العسكرية التي تتنقل في أرض
سوريا، ليست كلها وطنية الأهداف ونزيهة؛ ففيها، في ظل نظام الإرهاب والاستبداد، المخترِق
والمخترَق، وفيها من يقاتل لأهداف فئوية، مدعومة من الداخل والخارج. وقد يكون هناك
القاعدة، وقد يكون هناك تكفيريون، وقد يكون هناك مندسون ينفّذون سياسات خارجيّة؛ لكن
تضخيم الأمر يجعل الوهم حقيقة، ويحرف مسارنا الثوري ، والتحليل الكلاسيكي وفق فوبيا
الإرهاب ، لا يصف الحقيقة؛ فهؤلاء لا يشكلون عموم الثورة وعموم المقاتلين, وهؤلاء يتواجدون
بفعل سياسة التجييش الطائفي والمذهبي التي يستخدمها النظام ويفجّرها يوميا، منذ البداية.
والثورة
ثريّة بالكتائب الوطنيّة الشريفة التي تدافع بأسلحتها المتواضعة عن الأبرياء والشعب والثورة، وفيها جموع الأبطال والمخلصين والأوفياء لمباديء
الحرية والعدالة والكرامة،
قد نعتقد أن الخيوط الأساسية للثورة محكومة بعقلية الفوضى والتخبط؛ لكن على أرض الواقع، الثورة كطوفان، يجري بقوة،
ويدفع معه وأمامه النفايات للتخلص منها ورميها بعيدا. خط الثورة واضح وأعمدتها واضحة:
الشعب والقيادة السياسية الشعبيّة للثورة، ويجب توحيدها سياسيا وإعلاميا وعمليّا، والقوى الثوريّة المسلحة، التي تتصدى
لبطش عصابات النظام وقواته الأمنية ، وهي القوة الضروريّة
لدعم الثورة الشعبيّة وإنجاحها . ويجب تنظيمها وضبطها وتوجيه عملها ضمن رؤية سياسية جديّة وواضحة،
تقودها وتوجهها وتحميها، القيادة السياسية الموحّدة للثورة، بالتعاون مع المجلس الوطني
الذي يجب إعادة مأسسته وهيكلته.
عندما تتفكك في الحروب البنية الاجتماعية، ويزداد الجائعون، والخائفون والمشرودن،
يضطر المحتاجون المقهورون، ، عندما لايكون
هناك مجيب على صراخهم، إلى مد أيديهم لمن يدعي المساعدة والإغاثة، ولمن يقدم لهم المال..
والنظام، يستغل هذه الأوضاع، و يلجأ إلى الاختراق
والعنف الشديد لإسقاط الثورة بإسقاط
النفوس. ولعلّ تفريغ أحزاب المعارضة من برامج النضال الواقعيّة العمليّة، يسهّل انزلاق جماعات من الشعب إلى الانفعال العاطفي وردة الفعل الغريزي. وهنا يصبح
التعلق بالقشة في وسط هذا الغرق، خطرا
يستدعي الحذر؛ فالعموم تجذبه العواطف وتحركه فورة الدم والعصبيّة. وقد يمسك، كردة فعل، بعصمة الحرب الدينية المقدسة،
ويتحدى بها تغوّل النظام الظائفي في التوحّش.
تهمة الإرهاب التي تدان بها الثورة السورية كذبة؛ فإرهاب النظام الفاسد المستبد
وجرائمه، دفع الناس إلى حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم.؛ وبضغطه نشأ الجيش الحر ، ليحمي المنشقين الذين رفضوا الحرب
مع النظام. وليس هناك أسلمة سياسية في بنية
الثورة؛ لكنّ التجييش المذهبي مخيف، وهو سلاح خطير موجه على الثورة. إن الثورة منفتحة للجميع، على الرغم من الدمار،
ومن الدم النازف. من يصنع الثورة على الأرض ويحافظ على وحدة سوريا هو الذي سيبني مستقبل
سوريا.. لا خيار أمام شعبنا وقواه المختلفة في هذه المرحلة إلا التعاون والتكاتف والدفاع
عن نفسه بنفسه، مهما اشتدت المحن وارتفع الثمن
، . وكما قال المفكر عصام العطار:" إن لم نتحرّكْ جميعاً بكلِّ
طاقاتِنا وإمكاناتِنا الروحية والعاطفية والفكرية والعملية، فلا ضمان للتغيير، ولما
ننشده بعدَ التغيير من الحرية الداخلية والخارجية، والمستقبل الزاهر الكريم"
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق