مرت على الرجل والذي كاد أن يشارف على الستين
من العمر، ليلة مرة وقاسية لم يستطع النوم فيها، يتابع الأخبار لحظة بلحظة، وكل خبر
يسمعه تزيد من آلامه، وبتوالي هذه الأخبار المتراكمة، جعلته في حال من الجمود العقلي
مع جمود عاطفي، يحاول البكاء، ولكن لاجدوى، ينظر حواليه لايجد من أمامه إلا جدار اصمت
كعقله وحاله في ذلك الوقت، ليس أمامه إلا متابعة الأحداث، لعله يطل الفجر وتطلع شمس
النهار، لم يستطع النوم . عندما حاول الخروج من الجمود الذي أصابه، لعل أعصابه ترتاح
قليلاً، يغمض عينيه، ولكن صور تعقبها صوراً، عن أطفال ذبحوا في قرية الحوله التابعة
لحمص، يفتح عينيه لافرق عنده، هي الحالة نفسها، القلب يتقطع،الدماء النازفة يشعر فيها
كانها تجري من عروقه مقذوفة خارج جسمه، أصواتهم وصرخاتهم وتوسلاتهم في أذنيه، صوت يقول
اجعل السكين حادة أرجوك ياعماه حتى لاتؤلمني عند الذبح، وفتاة تقول بترجاك ياعمو لاتذبحني
فذبحها وهو يضحك.
في تلك الغابة وجد وكر للأفاعي منذ عقود عدة،
كان عددها قليل وأثرها بسيط، ولكن لما رأت الناس من حولها لاتعيرها اهتمام، ولا تشعر
بخطرها، فتكاثرت تكاثراً مضطرداً، وانتشرت بين الناس، تختار منهم ماتريد فمنهم من تبلعه
ومنهم من يهرب منها، ومنهم من يواسيها ويقدم لها حتى بنيه.
مئات الآلاف من الناس ذهبت ضحيتها، وليس أمامهم
إلا الدعاء بالسر، حتى لا تسمع فيهم الأفعى.
الرجل هرب من لدغات الأفاعي منذ سنين طويلة،
ولكن بعد ان ابتلعت نصف أهله، كان طوال هذه السنين يفكر بوسيلة للقضاء على هذه الأفاعي
المنتشرة في غابته الجميلة، والتي تحولت بعدها لغابة لاتفوح منها إلا الروائح الكريهة
ونفثات السموم الصادرة عن تلك الأفاعي .وضاق الناس ذرعاً فيها وهبوا للخلاص منها والقضاء
عليها .
ولكن هذه الأفاعي جمعت كل حيايا الدنيا معها
من شرقها لغربها وشمالها لجنوبها, والناس تحاول الوصول لمقرها في وكرها، فالأفعى لاتموت
إلا بقطع رأسها .
الرجل حزين جداً فهو يرى في أم عينيه الطريق السالك والحلقة الأضعف في حماية رأس الأفعى، ويعرف
ان الطريق سالك، وبأقل الخسائر والتكاليف .
هو حزين على كل نفس بريئة تزهق، ولو تم سلوك
الطريق الذي يعرفه، ماكان في مقدرة تلك الأفاعي أن تقتل الأطفال والنساء في مدينة الحولة
.ولا غيرها ولكان قد تم التخلص منها .
الرجل ضعيف ولا توجد له قواعد مادية تدعم موقفه
وخطته تلك .
فقال نعرضها على المخلصين، والأصدقاء والمقربين،
وعلى المقاتلين، وعلى المعارضة ولكن كل يغني على ليلاه وليلاه هو الأفعى.... والأفعى
لها فائدة عنده فالتبقى ...يكفيه دقائق يتحدث والعالم والمقربين يرونه في الاعلام المرئي
وغيره، فهو يشعر بالنقص، وعندما يتم القضاء على الأفعى فلن يجد له مكاناً يجلس فيه.
هو لايريد أن يبكي، أو يندب حظه أو يدعوعلى
هؤلاء الأحناش، فلا فائدة من كل هذا، الفائدة هي تكمن فقط في التخطيط والعمل وتجميع
الوسائل واستخدامها في مكانها الصحيح، فما فائدة البكاء لنفس بريئة قد أزهقت، وما فائدة
الدعاء بدون الأخذ بالأسباب والمسببات.
هو فقط يبكي لأنه وقف بجانب مجموعة من الذين
يبذلون كل غال في سبيل القضاء على ذلك الشر المستوطن، ولكن تنعدم عندهم الوسائل اللازمة
لذلك، فقال لهم أنا مسافر لبعض الوقت، لأجلب لكم الوسائل والتي تمكنكم من قطع رأس الثعبان
الكبير، وتطهير البلاد من شرها المستوطن لعشرات السنين .
وخاب ظنه ولم يجد من يقدم له تلك الوسائل،
فقد شعر من طبيعة الرد أو عدمه أنه لاأحد يريد
إلا بقاء هذه الأفعى ومن معها، ودليله هو : أنه لايمكن الوصول لذلك المكان إلا بتنفيذها،
ولكن جعلوها في غياهب الذكريات المدفونة.
د.عبدالغني حمدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق