من منا لم يقرأ
ملحمة الالياذة للشاعر اليوناني المبدع (هوميروس) أو لم يشاهد أحد الأفلام
السينمائية التي أنتجت عنها؟ ومن منا لم تفزعه شخصية المحارب الاسطوري الاغريقي
(آخيل) الذي قاد حملة عسكرية بحرية من (اسبرطة) إلى (طروادة) لاستعادة أميرتهم
(هيلين) التي هربت مع الأمير الطروادي (باريس)؟ من منا لم يحبس أنفاسه أمام القوة
الهائلة لهذا المحارب على أرض المعركة وهو يحرك سيفه كما تتحرك المراوح، قاطعاً
بها رقاب وأطراف خصومه ومرسلاً بهم إلى حتفهم؟ ومن منا سينسى معركته الدموية مع
غريمه البطل الشجاع (هيكتور) ابن ملك اسبرطة وكيف فتك به وسحله دون رحمة أمام شعبه
الذي كان يراقب من فوق الأسوار؟
لم يكن (هوميروس)
ليقدم هذه الشخصية الاسطورية الأقرب إلى الوحشية في ملحمته لمجرد الاثارة وحبس
الأنفاس واضافة لون الدماء عليها، بل لاشك هدف إلى ماهو أبعد من ذلك. فهو كان يريد
أن يقول أن المخلوق، وهو (آخيل) في حالتنا هذه، ومهما كان قوياً أو يبدو بأنه قوي،
ومهما كان جباراً ومتغطرساً ويبدو غير قابل للهزيمة، فلا بد أن يكون له نقطة ضعف
على خصمه اكتشافها للنيل منه. وقد وضع (هوميروس) نقطة ضعف (آخيل) متقصداً في (أدنى)
أعضاء جسم الانسان وهو كعب القدم. ومكن منه، متقصداً أيضاً، الأمير (باريس) الذي
كان من أضعف محاربي (طروادة) جسمياً وأقلهم خبرة بالمبارزة، إلا أنه أمهرهم برمي النبال.
فما أن اكتشف الأخير نقطة ضعف (آخيل) حتى رماه بسهم فيها فقتله.
نعود بعد هذه المقدمة الطويلة نسبياً لنسقط
شخصية (آخيل) على الأنظمة الديكتاتورية بشكل عام والنظام السوري بشكل خاص. فكلنا
شاهد كيف وصل حكام تلك الأنظمة بتفكيرهم إلى حد من الجنون اعتقدوا معه أن الله، أو
القدر بالنسبة لللادينيين، اصطفاهم ليرثوا البلاد ويحولوها إلى مزرعة خاصة لهم.
وكلنا شاهد أيضاً العروض العسكرية الضخمة التي اعتادوا تسييرها من ساحات وشوارع
العاصمة وهم يجلسون في المنصة مع عصابتهم، ويقول واحدهم لنفسه: مع هكذا جيش وأمن
وصواريخ ودبابات وطائرات، سأحكم إلى الأبد ومن بعدي أولادي وأحفادي إلى ولد الولد،
ولن يجرؤ أحد من الشعب الذي يشاهد ماأشاهده الآن على معارضتي وتهديدي وإلا سأمسحه من الوجود.
السؤال الذي
أحاول الاجابة عنه في هذا المقال: إذا كان كعب (آخيل) نقطة ضعفه، فما هي نقطة ضعف
النظام الديكتاتوري القمعي والذي يبدو للوهلة الأولى غير قابل للسقوط؟ في الحقيقة
فان الجواب على هذا السؤال في غاية السهولة والبساطة، ولن نضطر للبحث في جسم
الديكتاتور عن تلك النقطة، فهو في النهاية ليس باسطورة أو بنصف آلهة كما كان
(آخيل)، ورصاصة واحدة في رأسه أو قلبه كافية لأن تنهيه، وقد برهن (القذافي) على
ذلك قبل أشهر.
إن نقطة ضعف الديكتاتور ونظامه المافيوي هي ببساطة (كراهية
الشعب) له واحتمال انفجاره في ثورة ضده في أي وقت، والحاكم الذي يكرهه شعبه هو
في الحقيقة كمن يجلس فوق قنبلة موقوتة قد تنفجر في اي لحظة. والديكتاتور يعرف تلك
الحقيقة ولكنه غير قادر على فعل شئ حيالها، وبالتالي فهو يمضي فترة حكمه تحت
إجراءات أمنية مشددة محاطاً بمئات وأحياناً بآلاف عناصر الأمن يفصلون بينه وبين
الشعب بمسافة أمان. حتى وحين يدعي أحياناً أنه ينزل إلى الشوارع العامة والمطاعم
الشعبية ويختلط بالناس العاديين، فهذه كلها مسرحيات للاستهلاك الاعلامي المحلي
والدولي. فالحقيقة أنه ليس مجنوناً ليكشف نقطة ضعفه ويجازف بحياته، فعناصر الأمن
تكون قد سبقته إلى تلك الشوارع والمطاعم وانزرعت فيها قبل وصوله، وكلنا نعرف أن
عنصر الأمن لايعلق لائحة على صدره تقول (انتبه فأنا عنصر أمن). هذا من جهة، ومن
جهة ثانية فان استعمال الديكتاتور لقانون الطوارئ وتشديده القبضة الأمنية على
الشعب إنما هو للحيلولة دون انفجار الثورة التي عادة مايتوقعها الديكتاتور مع شمس
كل صباح يأتي على مملكة الظلام التي يحكمها.
وطبعاً فان
نقطة الضعف هذه خاصة بالأنظمة الديكتاتورية حصراً، ولاتعاني منها الأنظمة
الديمقراطية. المواطن في تلك المجتمعات ليس بحاجة حين (يكره) الحاكم لأن يقوم
بثورة ضده، فهو يعلم أن عدد سنوات حكمه محدودة بموجب الدستور، وأن صناديق الاقتراع
هي الفصل بينه وبين حاكمه حين يأتي موسم الانتخابات القادم. وفي حال تورط هذا
الحاكم بعمل ضد القانون وانكشف وأثار غضب الشعب ضده، فان الدستور يجيز إنهاء فترة
حكمه حتى قبل انتهائها عن طريق إجباره على التنحي من منصبه بواسطة البرلمان الذي
يفترض أنه فوق الحاكم.
وهذا ماحدث في حالة الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون)
عام 1974 حين ثبت تورطه في فضيحة (ووترغيت). ولكن الأنظمة الديكتاتورية مختلفة
تماماً، فالدستور، مثله مثل والبرلمان وصناديق الاقتراع، إنما هي مجرد قطع من
الديكور يستعملها الحاكم ليزين بها مزرعته التي يطلق عليها اسم الوطن. أو هي
بمثابة أدوات المكياج التي يستعملها للتخفيف من بشاعة نفسه المشوهة والقبيحة.
إلا أن،
وبعد حادثة (البوعزيزي) وانتصار الثورة التونسية، اكتشفت بقية الشعوب العربية
قوتها من جهة، وأعادت اكتشاف نقطة ضعف الديكتاتور التي لم تتغير منذ وجود
الانسانية من جهة ثانية. فخرجت إلى الشوارع والساحات بالآلاف والملايين تهتف بعبارات
الكراهية له وتطالب باسقاطه وحتى باعدامه كما في الحالتين الليبية والسورية.
كما قررت أن لاتعود إلى بيوتها إلا بعد أن تحقق مطالبها
بأن تزيل الديكتاتور ونظامه مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات. وقد أيقن الشعب
السوري خصوصاً أنه لو كتب النصر للثورة التي انطلقت من مدينة حماة قبل
ثلاثين عاماً، لما كان اليوم يدفع من جديد بعشرات الآلاف الاضافية من الشهداء
والمعتقلين والنازحين. وبالتالي فقد بات يوقن أن بقاء النظام الوحشي هذه المرة
يعني أن المجازر ستتكرر في المستقبل إن كان في عهد الأسد الحالي أو ابنه أو حفيده،
فهذه الأسرة تؤمن بأن لها حق وراثة سورية وتوريثها، وهي تقاتل من أجل الاحتفاظ به.
ولذلك فعلى الثورة أن لاترضى بأقل من استعادة هذا الحق وأخذ تلك الأسرة إلى
المحاكمة هي وكل من وقف معها وشاركها جرائمها ضد الشعب السوري.
وفي الخاتمة
أقول للشعب السوري، ولكل شعب مقهور من قبل حكامه، أن لاتفقد الأمل، ولاتسمح لوحشية
النظام وجبروته أن يثنياك عن الاستمرار في مقاومته. فقد كان ثمن حياة (آخيل) في
النهاية سهماً في كعبه، وثمن (القذافي) رصاصة في قلبه. وبين الاسطورة الاغريقية
والثورة الليبية، روى لنا التاريخ كم كان ثمن حياة ملكة فرنسا وقيصر روسيا،
وحديثاً جزاري رومانيا وصربيا. ومن يعلم، فربما سجل التاريخ في المستقبل أن تلك
الشخصيات السابق ذكرها كانت محظوظة بالطريقة التي انتهت بها بالمقارنة مع الطريقة
التي سينتهي بها زميلها السوري ومؤيديه.
***
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 23 جماد الآخر 1433، 14 أيار، مايس 2012
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق