الغرفتين
ومنتفعات، هي أقصى ما يحلم به الشاب السوري في ظل حقبة البعث، واحدة
يجعلها متكأ للنوم والخلود للراحة، والغرفة الأخرى لاستقبال الضيفان، من أجل
(لعبة شدة)، والتهامس خلالها عن أوضاع اقتصادية خانقة، والعبور بالأزمة
خارج الحدود، كأن يتحدث الندماء عن الحكومة اللبنانية وأزماتها المتلاحقة،
أو عن الانتخابات في البرازيل، أو انقلاب الجيش على الحكومة الشرعية في إحدى
جمهوريات الموز!!!
نظرية الغرفتين ومنتفعات، هي حل إصلاحي لظاهرة الغرفة ومنتفعات السابقة تاريخيا، والتي يقتطعا الشاب السوري من منـزل أهله، ويأتي بابنة الحلال إلى جحيم أمه المطبق، التي تمارس فيها (الحماية )على هذه العروس الجديدة أغرب وأحدث (التقليعات) في التنكيل بهذه الفتاة الغضة؛ فتدخل الحياة الزوجية من نفق موحش؛ مفروش بالمسامير والأحجار ومطلي بالقار (الزفت).
هذا الحل الإصلاحي الواقعي ينقذ هذه الأسرة الناشئة من كارثة الانفصال، أو الاكتئاب المزمن، فيتداعى أهل الرأي والخبرة في مجال إصلاح ذات البين باقتراح بناء غرفتين ومنتفعات على سطح المنـزل، دون أعمدة، وكما يقولون بالمصطلح الدارج (غرفتين لف )، ومن هنا بدأت ظاهرة العشوائيات، التي كدست ألاف البشر فوق بعضهم، يعيشون خصوصية مشتركة بحكم المكان الجغرافي الذي يضم هذه العائلات، وتحولت سوريا إلى جمهورية العشوائيات .
جاء نظرية الغرفتين ومنتفعات مع صعود البعثيين إلى لسلطة فهي من إبداعهم، فعندما جاؤوا في مطلع الستينيات، كانت المدن السورية ذات تنظيم وتخطيط جميل، مدن تنبض بالحياة والأدب والفكر، تلمس الفارق بينها وبين الريف البسيط، فتكون تجربة المدينة حالة خاصة ورائعة؛ تضيف للوافد إليها تراكمات حضارية بينة، ولكن مع وفود البعث للسلطة أسس لنظرية الغرفتين ومنتفعات، فلم يخطط لبناء أي مدينة حديثة ( باستثناء مساكن الجيش ) التي تعتبر (تجربة بيتونية )صماء لا تحمل روحا مدنية، وظل هذا النظام يمارس شقلبات الفكر السياسي والاقتصادي، دون هدف أو مشروع قائم على أسس علمية ، فإذا ازداد عدد الطلاب استأجر ملحقا في منـزل، جعل غرفتين صفوفا تعليمية، وغرفة صغيرة للإدارة، إضافة للمنتفعات، وإذا ازداد عبء دائرة حكومية، وتضاعف عدد موظفيها جاؤوا بالمهندسين؛ ليقيسوا تحمل هذا البناء الذي بني في عهد الانتداب الفرنسي، ثم يقومون بإنشاء طابق إضافي، هذه المرة عدة غرف ومنتفعات، التي لا يمكن الاستغناء عنها !!!!!وإذا أراد افتتاح مستوصف جديد، بحث عن بناء يستأجره وهلم جرا .
وهذه الأزمة واجهت النظام أيضا أثناء الثورة السورية، فلم يكن قد جهز نفسه ببناء معتقلات تكفي 20 مليونا ، فصار كان يكدس المعتقلين في أقبية ضيقة، لذلك اضطر للاستعانة بالمدارس والملاعب الرياضية لجعلها معتقلات،و ربما لأنه بوجد فيها منتفعات!!!
ولكنَّ الخرقَ اتسعَ على الراقع -كما يقول المثل العربي- فقد ازداد عدد السكان بشكل انشطاري؛ فحينما واجهت النظام أزمة ازدياد عدد طلاب الجامعة (في دمشق مثلا)، بنى ما يسمى ( الهنكارات ) وهي بدعة جديدة، شق متطور عن نظرية الغرفتين ومنتفعات، حيث يكون مستوى ارتفاع الأستاذ مساويا لنظر الطلاب تماما، وطول هذا (الهنكار) 40 مترا، وأزيد بحيث أن الطالب بعد عدة صفوف لا يرى الأستاذ، ويظل طول المحاضرة مشغولا بتسريحة شعر زميلته الرائعة، و الألق الذي يقطر من خدها الأبيض، ورذاذ العطر المتطاير منها يملأ المكان حياة، ولكن حتى (الهناكير ومنتفعاتها) ما أسعفت الطلاب، من حيث ازدياد عددهم في ظل مجتمع لا يرحم دولة، ويتناسل دون رحمة أو هوادة!!!!!، فما كان من النظام إلا أن حول الممرات إلى قاعات امتحانية ، واستعان بالخيم وبيوت الشعر، ونصبها في ساحات كلية الآداب في جامعة دمشق، إذانا بالعودة إلى التراث العربي الجميل، ورحلة البداوة الرائعة ،واستعاضة عن نظرية الغرفتين ومنتفعات إلى نظرية بيت الشعر الذي لا يحتاج منتفعات، لأن الأساس أنك تعيش في صحراء ممتدة تقضي حوائجك أينما طاب لك المقام وأنت تتأمل النجوم ويسف وجهك هجير النهار أو نسمة عذبة في الليل، ولأن قضاء الحاجة دون الاستعانة بالمنتفعات يحتاج مكانا واسعا جدا ومفتوحا، فإن أقرب مكان تنطبق عليه الشروط هو القصر الجمهوري الذي يبعد مسافة بسيطة عن كلية الآداب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق