ما بين الوعظ والشماتة؛ جاء موقف رئيس كتلة
نواب "حزب الله" تعليقاً على أحداث طرابلس. بدا النائب محمد رعد وكأنه وحزبه
غير معنيين بالفتنة هناك، لا لجهة افتعالها ولا لجهة تسعيرها، لكن الواقع غير ذلك،
فـ "حزب الله" أكثر الحاضرين فيما يجري في عاصمة الشمال؛ فهو حاضر من وراء
الجهاز الأمني الذي أشعل الشرارة، وهو حاضر من خلال مسلحيه الذين جابوا الشوارع واستفزوا
المعتصمين أو اعتدوا عليهم، وهو حاضر في قرارات الحكومة، ووزير دفاعها، وقرارها المتأخر
في حسم الموقف بحجة الغطاء السياسي، وهو حاضر بقوة الصواريخ والمدفعية والدعم السياسي
والإعلامي في جبل محسن... وأهم من ذلك كله أنه حاضر في ذهن كل محتج من أبناء الشمال؛
يرى نعومة القوى الأمنية تجاه فريق وخشونتها ورعونتها أحياناً تجاه فريق آخر، ويرى
كيف "ترتب" ملفات الحزب وكيف "تفبرك" ملفات سواه، وكيف يُؤدى سلام
التعظيم لسلاح فريق وكيف يُعتبر السلاح بيد
غيره "إرهاباً"، وكيف يفرج عن عميل بعد سنة سجناً ويبقى 168 موقوفاً بلا
محاكمة منذ خمس سنين، وقس على ذلك مما يصعب حصره.
عصر الثورة السورية
بعيداً عن "مواعظ" النائب رعد المثيرة
للسخرية، فإن العامل الموازي في الأهمية الذي فجّر الأوضاع في طرابلس هو الثورة السورية؛
فتوقيف الشاب شادي المولوي جاء على خلفية علاقته بهذه الثورة، والتي صنّفها القضاء
"إرهاباً"-علماً أن إفادته أمام قاضي التحقيق أخذت دون حضور محاميه-، والاعتصام
لأجله جاء على خلفية أن ثمة من يكيد لـ "المتعاطفين" مع الثورة، والاشتباكات
بين جبل محسن وجواره اندلعت على خلفية تباين الموقف من هذه الثورة أيضاً، وبتزامن مريب
مع الاعتصام التضامني مع الشاب المولوي، وتشييع قتلى الطرفين استحضر الثورة أيضاً
(هتف المشيعون في جبل محسن: شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد)، كما أن السجال السياسي
"الجاد" في البلد؛ أكثره مرتكز على "المعركة" الدائرة في سوريا،
بين مَن يريد التخلص من النظام ويسعى لذلك، وبين من يريد بقاءه ويقاتل من أجل ذلك،
متخذاً من الحكومة أو الانتخابات القادمة أدواتٍ للصراع.
ما سبق يعني؛ أن الأحداث التي أصابت عاصمة
الشمال، يمكن أن يتكرر حدوثها؛ فهي معاقَبةٌ واستنزاف من جهة، وتصويرٌ للمدينة على
أنها موئل للسلفية التكفيرية من جهة ثانية، وحرفٌ للأنظار عن الحدث السوري من جهة ثالثة،
وتحويلٌ للصراع الأهلي إلى صراع بين طائفة والجيش من جهة رابعة.... كما أن هذا النوع
من الأحداث قابل للانتقال إلى أماكن أخرى "مشابهة" في بيئتها الجيوسياسية
والمذهبية، ما لم يتوفر الوعي الكافي.
الأخطر في الأمر؛ أن ما يريده أنصار النظام
السوري يأخذ بعين الأمور الآتية: تظهير وتكبير الحالة الإسلامية عموماً والسلفية خصوصاً،
وربط هذه الحالة بالإرهاب –سواء في سوريا أو لبنان-، وتالياً إحداث مواجهة بين هذه
الحالة وبين القوى الأمنية، بحيث يكون تيار "المستقبل" محرجاً ما بين الاتهام
بتغطية الإرهاب، أو ترك الساحة السنية المتعاطفة مع الثورة السورية تُضرب.
وإذا كان "حزب الله" – بما هو الحليف
الأهم للنظام السوري في لبنان- ينتبه جيداً لئلا يظهر أمام الملأ عراباً لهذا
"السيناريو"، فإن "فلتات" حليفه الإستراتيجي ميشال عون، وقصفه
على ما بات يسميه "الجحيم العربي"، واستفزازه المستمر للشارع السني، يظّهر
ما يمكن تسميته بسيناريو "الانتصار للنظام السوري" عبر تأديب الساحات المناوئة.
تهمة الإرهاب
لنفترض الآن؛ أن شادي المولوي متورط بقضية
إرهابية، على ذمة المخابرات الأمريكية (قال المدير العام للأمن العام:إننا نسقنا هذا
الملف مع جهاز أمني غربي!) وبما أن "إرهاب" المولوي غير معلنة ماهيته حتى
الآن، فسنترك الأمر للقضاء وللأيام حتى يتكشف الموضوع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه
-طالما أن الثورة السورية حاضرة في ذلك كله-؛ هل حققت أجهزتنا الأمنية مع أحدٍ بتهمة
المشاركة مع الشبيحة في قتل المدنيين أو العسكريين السوريين؟ هل أوقفت أحداً؟ الجواب
كلا، مع العلم أن هذه الأجهزة تعلم علم اليقين حقيقة مشاركة الأحزاب المؤيدة للنظام
السوري في قمع الشعب السوري، وهي تعرف أسماء كثيرٍ من المتورطين في الدم السوري كما
يعرفها الثوار وكثير من السوريين، وهي تعلم أيضاً بمواكب نعوش "الشهداء"
الآتية من سوريا كما تعلم بمواكب شحنات الأسلحة القادمة إلى لبنان، ولعلها قرأت التقارير
الدولية وسمعت الشهادات السورية واللبنانية وشاهدت الأفلام على الإنترنت لتعزز معرفتها...
ومع ذلك فإن هيبة السلاح تمنعها من اتهام أحد بتهمة الإرهاب أو أية تهمة أخرى.
لنفترض أيضاً؛ أن ثمة من يُدخل السلاح إلى
سوريا، وهذا يحصل أيضاً، فهل أوقف الجيش اللبناني أياً من شحنات الأسلحة التي وزعها
"حزب الله" على أنصاره في المحافظات اللبنانية كافة، مما يخرج يقيناً من
الوظيفة المسماة مقاومة، كما أوقف شحنة الأسلحة الآتية بالبحر إلى ثوار سوريا؟ طبعاً
لا.
بإمكاننا الاستفاضة كثيراً في هذه المقارنات
التي يعرفها كل مواطن لبناني، وهي هي بالذات ما يؤجج المشاعر في طرابلس وفي غيرها من
المناطق، لشعور الناس أنهم مواطنون من فئة ثانية، وهذا بالذات أيضاً ما يجعل الشارع
السني –تحديداً- في حالة توتر، وهذا وذاك يشكلان أفضل بيئة للتطرف!.
وعي وحذر
في ظاهر الأمر؛ يبدو أن الرئيس ميقاتي ووزراء
طرابلس الخمسة، والقوى التابعة لـ "حزب الله" في الشمال في حالة خسارة شعبية
وسياسية جراء ما جرى ويجري، بعدما بدوا عاجزين عن حماية المدينة التي رفعوا شعار تعزيز
مكانتها وإنمائها عندما جاؤوا إلى الحكومة. الخسارة –التي يقابلها استفادة منافسيهم
سياسياً- صحيحة من هذا الوجه، تماماً كما الخسارة المعنوية –في الشارع الطرابلسي- لجهاز
الأمن العام، ومديره العام عباس إبراهيم، أقله فيما خص الطريقة التي أوقف من خلالها
المولوي، غير أن الأمر أكبر من هذه الحسابات السياسية المحدودة، ذلك أن مستقبل منطقة
وحاضنة سياسية وطائفة رئيسية على المحك، ما يعني ضرورة ترشيد إدارة الصراع، بما يجعله
في خدمة مشروع الدولة، وضد المشروع إياه المشكو منه.
وعليه؛ لا يصح ولا يخدم أبداً شن الهجمات السياسية
على الجيش أو تعبئة الشارع ضده، ففي كل الأحوال، ومع الأخذ بعين الاعتبار غضب المجروحين
في طرابلس من التكلؤ في الدخول إلى مناطق النزاع، فإن الجيش هو الرهان الحقيقي الذي
يريده الناس الرافضون لانفلات السلاح تحت اسم "المقاومة"، وهذا هو الجيش
نفسه الذي وقف أهالي الشمال أمامه وخلفه وإلى جانبه في نهر البارد عندما كان الآخرون
يرسمون له خطوطاً حمر، كما أنه الجيش نفسه الذي يضم عديده أكبر نسبة من أهالي الشمال،
وفي كل الأحوال هو عمود الدولة الذي إذا انهار انهار ما تبقى منها. هذا كله لا يعني
عدم انتقاد الخلل إذا حصل، ولا سيما لدى جهاز المخابرات –وهذا حاصل وأكيد نتيجة نفوذ
فريق السلاح إياه على المخابرات-، وفي كل الأحوال فإن للجيش سلطة سياسية يجب أن تتحمل
سياسياً أي خلل على الأرض.
وما يقال عن الجيش ينطبق أيضاً على الأمن العام.
ويسري الأمر نفسه على القضاء، لجهة عدم استهدافه (مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن
القضاء العسكري متأثر أيضاً بنفوذ "حزب الله")، فهذه الأجهزة كلها أعمدة
الدولة. المشكلة ليست فيها، وإنما فيمن يفرض أو يحاول أن يفرض نفوذه عليها، وعلى هذا
الفريق ينبغي التصويب لا على الأجهزة نفسها.
واستطراداً؛ فإنه ليس من الحصافة في شيء أن
يكون الإسلاميون أو السلفيون هم الواجهة في هذا الصراع، فلا حجمهم على الأرض يجعلهم
الواجهة، ولا مهارتهم السياسية تخولهم ذلك، وفي كل الأحوال ينبغي أن يكون الإسلاميون
أحرص على أنفسهم من أن يُسمّنوا ليكونوا كبش الفداء، مع فارق أن ضربهم سيعني بالضرورة
ضرب ساحة كاملة.
إن أصل الداء في كل ما نعاني هو الاستقواء
بالسلاح في إطار مشروع الهيمنة، وكل ما عدا ذلك فروع، ولو كانت طرابلس مدينة منزوعة
السلاح ما حصل الذي حصل، وعليه؛ فإن المطلوب هو تحويل وعي الناس المتزايد بخطورة هذا
المشروع إلى مطالب سياسية، ودفع غضبها المتأجج ليكون قوة تغييرية، وتوجيه امتعاض الممتعضين
ليكون ضد كل من ارتضى السير في هذا المشروع، وتحويل ممالأة الممالئين والمرتهنين، إلى
نزف سياسي وشعبي يشعرون به عند الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق