يغرق الإنسان، عموما، في اللحظة المرهقة، وينسى، طبيعة سير وجوده، بأنّ
لكل زمن وقته وتفاصيل معاناته وجزئياته المرهقة.
وهي كلّها فصل من دورة الحياة, وأي ربيع مزهر، يسبقه شتاء قاس. فعندما نراقب الفجر
وهو يستيقظ، والحقول وهي تزهر ...قد لا نصدق أن الفصل الذي مضى كان صقيع الرياح، وظلام الغيوم . وأنّنا أوشكنا
، في قسوة ذلك الوقت، أن نسقط صرعى اليأس بعد أن تلاشى الأمل بالربيع والخلاص.
في ثورتنا السّوريّة لا مفر من أن نخوض
الزمن الصعب المثقل بآلام شديدة تفرضها عمليّة التخلّص من الاستبداد. الزمن الصعب المحمّل بقسوة الصراع غير المتكافئ،
وهزّات معركة الانتقال التاريخي ونزاعاتها؛ فإنّ من اقتحم فعل التغيير المصاب بحدّة الدوران، لابد أن يتحمّل أوجاع الغثيان والصداع والصدمات، ويتقيّأ ضعفه وعلله.
حصاد التغيير، يسبقه مرار الشقاء . ونحن أحوج مانكون إلى التزوّد باليقين والعزم لمواجهة خطر السقطة في توترات الحالة السياسية والضغوط الاجتماعيّة والأخلاقيّة
المرافقة لها. والمهم أن نملك صدق الفعل الوطني
وصدق الإيمان بالثورة الحق خوذة ودرعاً نرتديهما وقاية من هزّة السقوط والارتطام
بصخرة الواقع الثوري. فحتى لا تكون الفتنة، وحتى لا نحترق في جحيم الفوضى نتيجة النزاعات والخلافات والولاءات القديمة والجديدة
المنحرفة عن المسار الثوري الوطني، علينا أن نؤمن بأنّ التفكيك الكامل جوهر عمليّة
البناء وخطواتها الأساسيّة؛ فلا مسوّع لأن تربكنا حالة التفكيك وطبيعتها ومنظر المشاهد اوالصور القبيحة لتشوه البنى التي
تتفكك وتتكسّر أمام بصرنا.
الثورة تعمل على تفكيك بنى مجتمعنا الذي ابتلي، عبر السنين الطويلة بالعجز
نتيجة التخلف والاستبداد والإذلال واحتلال الإرادة والعقل والقلب. والثورة هدفها الجوهري
الإطاحة بما هو قائم والعمل على بناء واقع جديد. وبالطبع فإنّ عمليّة التّفكيك، تكشف
بوضوح عن البنى العفنة والمعطوبة والفاسدة.
وقد يكون لعملية التفكيك رائحة كريهة تنتشر واسعا، وتزداد حدتها بازدياد حالة التخلف والجهل والاستبداد التي
تتفكك. وهذا حال واقعنا العربي الذي كان يرسخ لقرون مضت تحت ظروف الجهل والاستبداد والتخلف وغياب العدالة الاجتماعيّة.
ولذلك فإن تراقق عمليّة التفكيك بالفوضى والانفلات، قد يجرّ إلى مشاكل خطيرة في سوريا
وخارج سوريا كنوع من تحريف الأزمة وتصديرها خارجا تحت مفهوم الإرهاب، يتحمّل النظام
الاستبدادي الحاكم مسؤوليتها. وليست الثورة
هي المسؤولة عما يحدث من فوضى في الداخل والخارج. بل نظام الحكم الاستبدادي، الذي قامت الثورة ضده. لكننا
في ظل هذه الفوضى والفوضى المصطنعة والمصنوعة من قبل النظام وأعوانه تحت مسميات السلفية
والقاعدة والإرهاب والعصاباتية، مطالبون بالوعي والتوعية، وبحسن إدارة الأزمة الثوريّة،
بشبكات داخليّة وخارجيّة، من خلال تأكيد الالتزام بالمبادىء العليا للثورة، وأهمها
الحرية والعدالة والكرامة والنبالة، ومن ثمّ
تأكيد حقيقة الوحدة الوطنية والإنسانيّة، على الرغم من التقسيم السياسي الاستراتيجي
القسري للشعب السوري، الذي فرضه النظام، والتقسيم
الجديد الاجتماعي السياسي بعد الثورة الذي
يفرضه، يوميّا، موقف المتخاذلين والفئويين والصامتين.
ليس فشلا في الثورة السورية عدم استجابة
الشارع السوري بكامله لتلبية مطالبها. وليس السبب، كما يعتقد كثيرون انحراف الثورة نحو
العسكرة والأسلمة، وهي اتهامات غير دقيقة، وفيها شطط؛ لكنّ السبب هو الظروف العالميّة
والإقليميّة المحيطة بالثورة السوريّة، بالإضافة إلى عامل داخلي مهم جدا هو مشكلة الخوف:
الخوف من بطش النظام من جهة, والخوف من خسارة
المستفيدين لنفوذهم ومصالحهم ولما اكتسبوه من تواطئهم مع النظام السياسي الاجتماعي
الثقافي؛ فالثورة منذ بدايتها في كل شعاراتها السلمية والتوحيدية وفي تضحياتها
المدنيّة، لم تلق دعما من جميع الفئات الشعبيّة،
بسبب مافي الناس من مخزون الالانتماءات الفرعية ومخاوف الخسارة، التي واجهت
الثورة، وطغت على الانتماء الوطني الخالص. لكنّنا الآن، وبعد كل هذا الصراع المرير،
مطالبون بتعزيز المفهوم السلمي الفاعل ليكون روح الثورة. ومطالبون بدعم معنوي وعملي
وتنظيمي للقوة العسكريّة الثوريّة لتحمي الثورة
والثوار والشعب. وعلينا في الوقت نفسه إرشاد عامة الشعب إلى خطر الجهات التي تدعم العسكرة
المذهبيّة السياسيّة التي تهمّش الطاقة الوطنيّة الفدائيّة.
وليس عجزا في الثورة، تأخّرها في إسقاط النظام السياسي؛ بل هي تبعات نظام الاستبداد
والبطش. فالمجتمع مازال في صامتا وليست الثورة المسؤولة عن حصول الاضطراب الحاد بين الانكماش والانفلات. بل منطومة اللا وفاء واللا إخلاص؛ فهؤلاء لم يستجيبوا
لمطالب الثورة لسبب جوهري أنهم أدركوا أنها ستسحب البساط من كلّ المنظومة السابقة
الثقافية والاجتماعية والسياسية التي استفادوا منها. لذلك لم ينخرطوا ليسهموا في تكوين الثورة وبلورة
رؤية أوسع للثورة، بل انهزموا وتقوقعوا وأخذوا يهاجمون الثورة، وعجزوا عن بناء فكر
جامع، وتشكيل بنى تكمّل بنى الآخرين. وقد تفاقم الوضع سوءا نتيجة
تباطؤ العالم في دعم الثورة السورية، التي وجدت نفسها وحيدة في المعركة. ثم نتيجة الضغط الإعلامي
الشديد الذي يمارس فيه النظام وعصاباته الثقافية أقصى حالات الكذب والتشويه والتزوير.
هذه الثورة نمت من الأرض، وفيها صفاتنا
المختلفة من جيدة وسيئة ، ولايجوز فصلها عن
سياقنا الحياتي والتاريخي، بل النظر إليها كمنظومة متكاملة، غير منقطعة وغير مؤقتة، بحاجة إلى النقد المستمر والمراجعة المبدأيّة، حتى
نجفف من سيرها ومستقبلها كل العناصر التي ورثناها من تشوهات التفكير والعواطف والمبادىء.
إنّا نحن كامنون في ثوراتنا: نزاعاتنا، واختلافنا وخلافنا، وانقساماتنا، اضطرابنا الذي
تمليه حالة الفوضى.؛ لكنّ ثورتنا قويّة تستلهم من جدليّة التاريخ طاقة التغيير الهائلة التي تقدر أن تنتج الجديد
وقد احتوت كل الصفات الرديئة وقلبت فعلها.
بين عمليّة الهدم وعمليّة البناء مرحلة فوضى.. ولا نستطيع أن نقتلع فورا وبسهولة رؤوس اللفت من أعماق الأرض القاسية, كذلك عقولنا التي تجذرت وسط التربة القاسية التي نشأنا فيها، ليس بالأمر اليسير اقتلاعها من السلبيات التي نمت فيها. وأمامنا طريق نصر واحد هو توثيق الصلة بكل مقومات التحرر والنهضة حتى نتخلص
من البنى المريضة، وتمتين الرباط بقضية الثورة النامية. فلكي ننتصر يجب أن تبقى قلوبنا واحدة ومعلقة بالهدف ذاته، وبذاته، تندمج رؤانا
لننتج صناعتنا الثورية التحرريّة.
الثورات العربية لم تندلع نيرانها مشتعلة
لكي تعبث بنا وتلعب في تاريخنا بفوضى وتآمر وخبث، وإنما لتحرق اليابس العفن الفاسد وتبتلع الحثالة،
وفي طريقها من الطبيعي أن تنشأ الفوضى بفعل الثورة المضادة وبفعل التغيير..ودورنا الوطني
هو التجذر في قضايا الوطن، وتنسيق العمل بين قوى الثورة المختلفة، والتنسيق المكثف
مع هيئات المجتمع المدني؛ لكي نتحكم بكل انحراف وغريب وشاذ وفاسد وغير وطني، ولكي نتعاون
معا لنقوى على سلبيات التغيير المؤقته ونصبر لنحصل على إيجابيات التغيير العظيمة. فالتغيير
أمر كبير جدا وشديد التأثير؛ مثل الانتقال بين الفصول، فليس يسيرا، خصوصا الانقلاب من الشتاء إلى الربيع. كذلك
لا يكون الانتقال في المجتمعات بين العصور سهلا، خصوصا في المفاصل الثورية التي تحدث
انقلابا كاملا في الصورة السياسية وما سيتعلّق بها من صورة اجتماعيّة وثقافية وأخلاقيّة؛
فطبيعة التغيير السياسي في الزمن ثوري، يرافقها
واقع صعب شبيه بالظلمة الداكنة، التي تثير
التشاؤم وتعدم النظر. و سرعان ما يتضح أنّ
النصر هو النتيجة، وأن خلف حجاب الظلام
يتهيّأ فجر ليطلع ويستعد نور لينبثق.
د.
سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق