أكرمني الله , وعلى امتداد سبع سنوات في عاصمة
الرشيد ببغداد , بصحبة رجل فاضل , وكاتب مهيب , وعسكري عبقري , خاض حرب عام ثمانية
وأربعين في جنين , وأول من درَس العسكرية العربية والإسرائيلية في القاهرة لضباط الأركان
, وكتب في الفتوحات الإسلامية الكثير الكثير , ويعد موسوعة متنقلة , إنه الشيخ الزاهد
المرحوم اللواء الركن محمود شيت خطاب , ولو كتبت فيه اليوم عشر مقالات لما وفيته حقه.
اصطحبني إليه الأستاذ الفاضل الأديب الأريب
عبدالله الطنطاوي , وقال لي : تعال أعرفك على رجل من بقايا الصالحين في الأرض … في
البداية استغربت من هذه المبالغة في الوصف , لكنني وبعد طول معاينة أدركت زهد وورع
وتقوى هذا الشيخ الجليل وصدق كلام أستاذنا عبدالله , فلزمته وماتركته طيلة هذه المدة
حتى توفاه الله , ماتركته لأن يحتاج أي خدمة في أموره العامة , لأن عقبه كان من البنات
, وكنت أسعفه إلى مستشفى شرحبيل العسكري القريب من بيته في حي اليرموك , فيسأله الأطباء
عني‼
وهم يعلمون أن ليس له ولد , وهم أبناء زملائه من الضباط الذين شاركوا معه في حرب الـ
48 , فيقول لهم هذا ولدي … فيبتسمون , كنت أكتب له مقالا أسبوعيا عدا مراسلاته الخاصة
, إذ أنه لايستطيع الكتابة , وإن وقَــع بخط خفيف على رسالة فيكون ذلك إنجازا , بسبب
الكسور التي نالها كأوسمة شرف تحت التعذيب , والتي تزيد على الثلاثين , في أقبية سجون
الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم , وبالمناسبة أو بالمقارنة لما نحن عليه الآن , ما سمعته
يوما يذم أو يسب أو يلعن ذاك الرجل…‼ وبالمناسبة أيضا لم يترك
شيخنا الجليل الرياضة بين المغرب والعشاء مع أذكار المساء , وإن كانت خطواته متقاربة
لعشر سنتيمات وقد تجاوز حينها الثمانين من عمره .
كنت أكتب له المقال أو الرسالة , ثم أعيد قراءتها
عليه كلمة كلمة , وأطلب منه التعديل في أي موضع يحتاجه , فيملي علي وأكتب , ولم أسمح
– بفضل الله – لنفسي أن أعدل حرفا دون إذنه … كنت أكتب له المقال ثم أرسله عبر البريد
إلى مجلة فلسطين المسلمة , وكان جل كتاباته , عن القدس وفلسطين , والإصلاح بين فتح وحماس , والأحداث التي
تمر بها الضفة والقطاع , طلبت منه عـدة مرات أن أكتب له مذكراته وأوثق له مشاهداته
عن حرب عام ثمانية وأربعين , فقال : يابني دعنا من ذلك , واتركنا لما نحن فيه اليوم
, فما عندي يقلب الطاولة على كل من كتب في هذا الموضوع….‼!
ذات يوم قال لي : تعال واكتب بسرعة – جاءته
الخاطرة ويخشى أن تذهب من ذاكرته – وبدأ يملي علي , وكان آنئذ يشيد بعالمين معاصرين
وشيخين جليلين ويشبههما بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله … ولم أقاطعه في سرده عن مواقف
الشيخين أحمد ياسين وعمر عبدالرحمن … وانتظرته حتى فرغ من كلامه وسألته مستغربا ؟؟
أيرقى هذين العالمين إلى مرتبة الإمام أحمد في صبره وثباته وحجته و… ؟؟؟ فقال : يابني
, احص عدد العلماء من الأئمة والخطباء والفقهاء والقضاة من عهد إمام التابعين الحسن
البصري رحمه الله إلى يومنا هذا فكم سيكون عددهم ؟؟ مليون … مليونين ‼! كم
واحدا منهم وقف أمام طاغية أو سلطان جائر؟؟؟ إنهم لايتجاوزون عدد أصابع اليدين مرة
أو مرتين … نعم هذان الشيخان من صنف الإمام أحمد رحمه الله, اكتب, قلت له :حاضر.
واليوم نقول ونحن يعتصرنا الألم لما تعانيه
ثورتنا المباركة من غياب واضح لدور العلماء في قيادتها وتوجيهها كما كانت على أقل تقدير
في الثمانينات … أين أنتم ياعلماء البلد …؟؟؟ من يصلح الملح إذا الملح فسد…؟؟؟
أين أنتم من موقف سعيد بن جبير الذي وقف في
وجه الحجاج , وكان دعاؤه على الحجاج قبل مقتله "اللهم لا تسلطه على قتل أحد من
بعدي". وفعلا مات الحجاج دون أن يقتل أحد من بعد سعيد بن جبير…
أين أنتم من موقف سعيد بن المسيب الذي كان
رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد عفيفا معتزا بنفسه , لا يقوم لأحد
من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم أو الاقتناع بهم , وكان
يعيش من التجارة في الزيت فقد طلب عبد الملك بن مروان والي المدينة المنورة في ذلك
الوقت يد ابنته , فلم يوافق عليه زوجا لابنته , وفضل عليه رجلاً فقيراً من قومه يدعى
كثير ابن أبي وَدَاعة القرشي السهمي على مهر قدره درهمان، ومن أجل ذلك كانت علاقته
بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
أين أنتم من الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي
كان يعد القادة والجند ليرفد بهم صلاح الدين الأيوبي في الشام لتحرير القدس حتى قال
القائل : هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس.
أين أنتم من الشيخ الزاهد الأمير ابن الأمير
إبراهيم بن أدهم – رحمه الله - الذي ترك الإمارة وذهب ليجاهد على الثغور في خراسان؟؟
أين أنتم من موقف سلطان العلماء ذلك الفتى
الشامي الشيخ الجليل العز بن عبدالسلام , الذي كان أول ما لاحظه بعد توليه القضاء في
القاهرة , قيام الأمراء المماليك، وهم مملوكون لغيرهم، بالبيع والشراء وقبض الأثمان
والتزوّج من الحرائر، وهو ما يتعارض في نظره مع الشرع الإسلامي، إذ هم في الأصل عبيد
لا يحق لهم ما يحق للأحرار. فامتنع أن يمضي لهم بيعاً أو شراء، فتألّبوا عليه وشكوه
إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه بدوره فتوى العزّ، فأمره أن يعْدل عن فتواه، فلم يأتمر
بأمره، بل طلب من الملك ألا يتدخل في القضاء إذ هو ليس من شأن السلطان، وأدّى به أنكاره
لتدخّل السلطان في القضاء أن قام فجمع أمتعته ووضعها على حماره ثم قال: ’’ألم تكن أرض
الله واسعة فتهاجروا فيها’’؟ إشارة منه إلى الآية القرآنية. ويرْوى أنّه تجمّع أهل
مصر حوله، واستعدّ العلماء والصلحاء للرحيل معه، فخرج الملك الصالح يترضّاه، وطلب منه
أن يعود وينفذ حكم الشرع. فاقترح العزّ على الأمراء المماليك أن يعقد لهم مجلسا وينادي
عليهم (بالبيع) لبيت مال المسلمين , وعندما نصحه أحد أبنائه بأن لا يتعرّض للأمراء
خشية بطشهم، ردّ عليه بقوله: ’’أأبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله؟
أين أنتم من الشيخ: شمس الدين , شيخ السلطان
محمد الفاتح , الذي رباه وأدبه ورعاه وكان السلطان الفاتح يستشيره في كل صغيرة وكبيرة,
ليكون فاتحا للقسطنطينية , ’’ نعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش’’
أين أنتم من ذلك الشيخ سعيد الحلبي عندما دخل
جبار الشام إبراهيم باشا بن محمد علي حاكم مصر المسجد الأموي في وقت كان فيه عالم الشام
الشيخ سعيد الحلبي يلقي درسا في المصلين . ومر إبراهيم باشا من جانب الشيخ ، وكان مادًا
رجله فلم يحركها ، ولم يبدل جلسته ، فاستاء إبراهيم باشا، واغتاظ غيظاً شديداً ، وخرج
من المسجد ، وقد أضمر في نفسه شراً بالشيخ .وما أن وصل قصره حتى حفَ به المنافقون من
كل جانب ، يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه ، وما زالوا يؤلبونه حتى
أمر بإحضار الشيخ مكبلا بالسلاسل .
وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد
إبراهيم باشا فغير رأيه ، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبواباً من المشاكل
لا قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من
الشيخ، طريقة الإغراء بالمال ، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن
ولاءه، ويسقط هيبته في نفوس المسلمين ، فلا يبقى له تأثير عليهم . وأسرع إبراهيم باشا
فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية ، وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام ، وطلب من
وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلامذته ومريديه . وانطلق الوزير بالمال
إلى المسجد ، واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه ، فألقى السلام ، و قال للشيخ بصوت عال
سمعه كل من حول الشيخ : هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك
.ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير ، وقال له بهدوء وسكينة: يا بني، عد بنقود سيدك
وردها إليه، وقل له: إن الذي يمد رجله، لا يمد يده.
أين أنتم ياأتباع الشيخ النبهاني – رحمه الله
- في الكلتاوية عندما دعاه محافظ حلب لأن يأتيه , فقال له : فلتأت أنت لأنك في مملكتي
ولست في مملكتك , وكان له ذاك الموقف النبيل في إضراب حلب أيام الدستور في عهد المقبور
حافظ الأسد.
أين أنتم يامشايخ حماة من مواقف الشيخ الجليل
محمد الحامد – رحمه الله – الذي له من المواقف ضد الباطل الكثير الكثير مع زبانية الحزب
وحافظ الأسد أيام ضرب حماة والدستور.
أين أنتم من الأمس القريب من ذلك الشيخ الأزهري
الشاب خالد يوسف الذي خطب خطبة الجمعة في ساحة التحرير فألهب المشاعر المليونية وقال
: ارحل ارحل يامبارك اللامبارك (فرعون مصر) واتجهت المسيرة المليونية المقدسة بعد الصلاة
نحو القصر , فما كان من حاكمها مبارك إلا الإسراع بالرحيل والهروب إلى سيناء بطائرة
مروحية.
أين أنتم من مشايخنا الكرام كريم راجح وأسامة
الرفاعي وسارية الرفاعي ود. محمد راتب النابلسي …
الثورة في أعناقكم … البلاد والعباد في أعناقكم
… فاتقوا الله فيهم ….وتذكروا أن أول ماتسجر النار يوم القيامة بعالم ومنفـق ومجاهد
لم يخلصوا لله رب العالمين.
وأخيرا نقول لكم ماقلناه ابتداء: ياعلماء الدين
ياملح البلد , من يصلح الملح إذا الملح فسد؟؟‼!
د.محمد
وليد حياني
رحم الله الشيخ الجليل محمود شيت خطاب
ردحذفوجزاك الله خيرا كثير على امانتك الخالصة لوجه الله
يا سيدي الفاضل علماءنا الحالين هم من افسدوا ملح البلد هم من فرعنوا فرعوننا وحللوا له الظلام
ولكن لا اجزم بخلوهم بالبلد فنحن نتعامل مع نظام خبيث قمعي لا يتوارى عن فعل اي شيئ للوصول الى مبتغاه
فهناك مشايخ هدد بشرفها ومن ثم عرضها وهناك وهناك .
ومثل لو قرأت قصة الشيخ الفاصل احمد صياصنة شيخ الجامع العمري بدرعا للتمسنا العزر لبعضها ....؟
اشكرك سيدي الفاضل على مقالك الرائع
واهديك بيت من الشعر ربما يفي كل صاحب حق حقه
حبلى السنابل تنحني بتواضعا ..والفارغات رؤسهن شومخ