حتى قبل انتصارها العتيد؛ خلّفت الثورة السورية
آثارها في المشهد السياسي اللبناني عموماً. التأثيرات في السياسة العامة وفي مواقف
وأحجام القوى لا تخفى على مُتابع، والتعديلات في الخارطات السياسية للمناطق اللبنانية
أوضح من أن يتجاهلها أحد. عاصمة الجنوب صيدا ليست استثناءً على ذلك، لكنها استثناء
لجهة حجم التأثيرات وبروز قوى سياسية جديدة على جناح مناصرتها للثورة.
حالة شعبية أقوى من مؤيدي النظام
السوري
قبل
عام من الآن؛ لم يكن يتخيل أحد-لا في الواقع ولا في الأحلام- أن تدعو مساجد صيدا على
بشار الأسد بالاسم، فيؤمّن الناس (قولهم: آمين) وراء الدعاء.
لم يكن يتوقع أحد أن يرفع فريق سياسي (الجماعة
الإسلامية) صوراً ضخمة (posters) لحيوان يجلس على كرسٍ (كناية عن الرئيس السوري)، وقد كُتب تحتها:
"بنصرتكم يفنى الأسد"!. لم يجرؤ أحد في السابق أن يكفر بالممانعة وقواها
علناً، لكن ذلك بات حديث الشارع الصيداوي اليوم، لأن القيمة الاعتبارية لهذه الشعارات
البراقة سقطت، عندما كشفت عن أقبح وجوهها؛ قتل الأطفال وانتهاك المحارم والحرمات.
وسط هذه الحالة الشعبية؛ باتت القوى الحليفة
للنظام السوري و"حزب الله" في صيدا محاصرة على نحو غير مسبوق. القوى ذات
التمثيل الشعبي النسبي -من بينها- تدرك هذه الحقيقة بالوضوح نفسه الذي تسمع فيه انتقادات
واستقالات من صفوفها على خلفية مواقفها المؤيدة للنظام السوري. يدرك هؤلاء أن تأييدهم
للنظام السوري لا شعبية له، لكن مواقف كهذه هي فاتورة مستحقة السداد؛ يدخل في هذا الإطار
-على سبيل المثال لا الحصر- زيارة رئيس التنظيم الناصري أسامة سعد للرئيس بشار الأسد
لـ "ساعتين كاملتين"! (4/4/2012).
كما أن انفضاض الناس عن بعض خطباء الجمعة في
المدينة ممن يسبّح بحمد مموليه واضح أيضاً، فيما الواجهات السنية التي زرعها ويرعاها
"حزب الله" في صيدا –كما في مدن ذات غالبية سنية أخرى- أصبحت كأنها جثث محترقة
لا يُسمنها المال السياسي، ولا يغنيها غطاء السلاح، أما تجار القدس والقضية الفلسطينية
فقد باتوا عراةً لدى الرائين والسامعين مهما تجلببوا بهذه القضية المقدسة، خصوصاً بعدما
فشلت محاولاتهم التلطي وراء حركات مقاومة معنية بفلسطين بصدق، لدرجة كادت أن تطيح بـ
"اللقاء السياسي اللبناني الفلسطيني"، عندما حاول إصدار بيان يدافع عن النظام
السوري بحضور حركة حماس التي هدد ممثلها بالانسحاب (16/2/2012).
ولأن الواقع الشعبي ضاغط إلى هذا الحد، فإن
كثيرين ممن يؤيدون النظام السوري باتوا يفضلون الإحجام عن إطلاق مواقف علنية من
"القضية السورية" في هذه المرحلة. أبرز هؤلاء رئيس البلدية السابق عبد الرحمن
البزري، الذي يحاول جاهداً استعادة شعبيته، من خلال اقترابه – من جهة- من هموم الصيداويين
المعيشية ولو وصل إلى حد المطالبة بإسقاط الحكومة (20/1/2012)، وابتعاده – من جهة أخرى-
عن الملف السوري "المحرج"، ولو عاتبه الحلفاء!.
التضامن مع الشعب السوري يعبّر
عن نفسه
وبما أنه من الطبيعي أن تعبّر الحالة الشعبية
المتضامنة مع الشعب السوري عن نفسها؛ فقد ظهرت في صيدا أطر جديدة للتحرك الجماهيري،
من أبرزها: "اللقاء العلمائي" الذي نظّم أكثر من نشاط جماهيري ضد نظام بشار
الأسد.
غير أن الظاهرة التي لفتت الأنظار أكثر؛ هي
ظاهرة الشيخ أحمد الأسير، حيث نجح باجتذاب جمهور عريض، لم يبق حبيس المسجد، ولا حتى
حدود مدينة صيدا، بل انتقل وجمهوره إلى ساحة الشهداء في قلب العاصمة بيروت، بأعداد
لا بأس بها، رغم المحاذير الأمنية... قبل أن يجول الأسير على غير منطقة لبنانية رافعاً
شعار التضامن مع الشعب السوري، الأمر الذي كرّسه لاعباً جديداً على الساحة السياسية
في صيدا، ولو نفى مراراً رغبته بولوج المعترك السياسي، إذ في علم السياسة يكفي أن يملك
شخص قوة التأثير والتوجيه على شريحة واسعة من الناس في موضوعات الشأن العام؛ حتى يصبح
لاعباً سياسياً، خصوصاً أنه احتك بالفعل مع أكثر من طرف في صيدا، لا سيما تيار
"المستقبل" الذي طالبه الأسير (على خلفية صدور مواقف غير إيجابية منه) باعتذار،
تحت طائلة "تكبير الموضوع"، قبل أن تسوى الأزمة بعد موقف توضيحي من الرئيس
فؤاد السنيورة.
ويتحدث الأسير اليوم عن مشروع إنشاء فضائية
تتبع له، وفي جديده؛ تحضيره لقاءً "إيمانياً" جديداً، بعدما سحبت بلدية صيدا
الموافقة على لقاء يجري في الملعب البلدي لصيدا، "إثر تعرضها لضغوط"، كما
جاء في بيان صادر عن الأسير.
أما لجهة التيار الأوسع في صيدا؛ "المستقبل"،
فما يزال قرار عدم التحرك في الشارع مهيمناً على القواعد التي يتفهم معظمها اعتباراته،
انطلاقاً من وضع التيار عموماً، لا خصوصية الحالة في صيدا، وفيما يبدو تعويضاً عن هذا
الواقع؛ نظّم التيار عدة نشاطات ضمّنها الملف السوري، أبرزها الاحتفال المشترك بين
"المستقبل" و"الجماعة الإسلامية"، في ذكرى تحرير صيدا
(16/2/2012).
ولعل المواكبة الأبرز للحالة الشعبية؛ تمثلت
بالتظاهرة التي نظمتها "الجماعة الإسلامية" نصرةً للشعب السوري، إن لجهة
الحجم، أو لجهة حدة الخطاب (تخللها اتصال مباشر مع قائد الجيش الحر رياض الأسعد، وحضور
ممثل عن المجلس الوطني السوري، ومشهدية لإعدام بشار الأسد)، وهو النشاط الذي سبقه احتكاك
مع عناصر بعثية في المدينة، تعرّض أحدها للضرب.
بعد عام ونيف على اندلاع ثورة الكرامة السورية،
تبدو التعديلات في الخارطة السياسية جلية. تُرى كيف سيكون المشهد بعد انتصار الثورة؟!
من يمارس السياسة لا يمكنه تجاهل احتمال مُرجّح كهذا، أو أن يأخذه بعين الاعتبار مهما
طمأن نفسه أنها... "خلصت"، ففي كل الأحوال سوريا لن تعود كما كانت، ورئيسها
الذي يستقبل رئيس حزب محلي لا تمثيل نيابي له، لمدة ساعتين، محاولاً استمداد الدعم
منه، هو أضعف من أن يحكم بلداً عظيماً بحجم سوريا!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق