من
كثرة ماكان يذكر لنا أستاذنا مدرس مادة التربية الإسلامية رحمه الله أستاذه وشيخه وعبقرياته
وفنونه شوقنا لرؤيته، دعوت الله أن أرى ذلك الشيخ الجليل، فاستجاب الله دعائي، والتقيته
قبل خروجي القسري من البلد الحبيب بأسابيع، لقد كان شيخا وقورا رائعا، كان إنسانا خارقا،
مهيب الطلعة، وليس ككل المشايخ إنه عالم عامل،
عالم بأكثر من فن وباب، وليس في أبواب العلوم الشرعية واللغة العربية فحسب، عامل متحرك،
لايفتر عن التفكر والتدبر والتأمل وتقليب الأشياء واستنباط الحكمة والموعظة والأحكام.
توقفت ساعة باب الفرج الشهيرة في حلب عن العمل،
ولا يوجد لها رقاص احتياطي، إذ مضى على إنشائها ردح من الزمن، وليس لها قطع احتياطية
أيضا، وكان الناس حينها، ليس كيومنا هذا توجد الساعات في السيارة والهاتف النقال وساعة
اليد والمحال التجارية، وإنما يعرفون الوقت
من ساعة كبيرة تتوسط ساحة سوق تجارية كبيرة، يؤمها الناس من كل أطراف المدينة، ويضبطون
ساعاتهم اليدوية على قلتها آنذاك وفقا لتلك الساعة … فقام الشيخ الجليل باختراع بندول
جديد لها، وركبه فيها ثم ضبطها، ومازال ذلك
الرقاص ينبض بالحياة إلى يومنا هذا، بينما توقفت دقات قلب شيخنا الجليل.
يحلق شعره بنفسه, ويخيط ثيابه لنفسه، ويحيك
جواربه بيديه، وعنده أدوات النجارة والحدادة والخراطة وغيرها … حيث تضم ورشته المتواضعه
في بيته معظم الأدوات الخاصة بالحرف، وهي مرتبة وموضوعة في مكانها المخصص، يستخدم الآلة
منها، ويعيدها إلى مكانها المخصص لها.
من دقة ماقام به من أعمال أنه ثقب إبرة في
الطول، وكان يقول لمن حوله من أحبابه ومقربيه، لو أن طبيبا جراحا متخصصا بالجملة العصبية،
احتاج إلى أداة دقيقة، مهما كانت دقيقة، ليعالج بها جزءا دقيقا من الجملة العصبية لصنعتها
له، شريطة أن يعرف كيف يصفها لي بدقة … وكم هي الأبعاد وكيفية الوصول إلى مكان إجراء
العملية.
ذات مرة كان مدرب الفتوة يتجول في ساحة الثانوية
الشرعية مزهوا برتبته، وكأن الدنيا لاتتسع له، لأنه ضابط وضع نجمتين على كتفيه، وقال
بلهجة ساخرة :أنتم المشايخ لاتصلحون إلا للولائم وخطبة الجمعة والإمامة وتغسيل الأموات،
ولاتفقهون من أمر السلاح والتدريب شيئا، فانبرى له الشيخ وقال له: هات البندقية التي
بيدك – وكانت بندقية لصيد العصافير- وقال له هل ترى ذلك العصفور على قبة المسجد ؟؟
قال الضابط : نعم، قال له الشيخ : بأي عين تريد أن أصيبه لك؟؟؟‼ فزاد ضحك وتهريج مدرب الفتوة …عندها قال الشيخ الوقور
لطلابه :إيتوني بمرآة… فأتوا له بها على وجه السرعة، وهم مستغربون من طلبه، وضع الشيخ
البندقية على كتفه بالمقلوب ‼! ووضع المرآة أمام وجهه خلف أخمص البندقية … وبدأ
يعاين ويصوب ويحرك البندقية يمنة ويسرة وإلى أعلى وأسفل بشكل متزن رصين …. ثم أطلق
… وقال للمدرب اصعد وأت بالعصفور، وانظر مكان الإصابة ‼!… وأسقط
في يد الضابط، وغادر ساحة الخسروية0( الثانوية الشرعية ) منكسا رأسه، معتذرا للشيخ.
من جملة أقواله أنه كان يقول : الحمدلله الذي
خلقني مسلما سنيا ذكرا شافعيا، حيث كان يتخذ الإمام الشافعي قدوة له ونبراسا، ليس في
المذهب فحسب، بل في السلوك والتصرف، لأن الإمام الشافعي، ذلك الفتى القرشي، رحمه الله،
كان يصيب بالسهم مئة من مئة، وكان فارسا مغوارا, كان يضع يده على أذن الفرس و من ثم
يقفز، وبلمح البصر يكون على صهوة جواده.
ألا
إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي …كم من علماء اليوم الذين عرفوا الشيخ أو أخذوا
عنه يشبهون شيخهم الجليل، الشيخ : عبدالرحمن زين العابدين – رحمه الله - الذي ودعناه
قبل ربع قرن من الزمان ؟؟؟
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا ياجرير المجامع
رحمك
الله ياشيخنا الجليل رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وحسن أولئك رفيقا… غادرتنا ياشيخنا الجليل ولديك الكثير الكثير من العلوم والمواهب
والمهارات وماتت معك، لكن أثرك الطيب في طلابك ومحبيك سيورق ويثمر، بإذن الله، لمثل
هذا وكمثل هذا فليعمل العلماء العاملون …
د.محمد
وليد حياني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق